فصل: فصل بَيَانِ مَكَانِ الْحَضَانَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


فصل نَفَقَة الرَّقِيقِ

وَأَمَّا نَفَقَةُ الرَّقِيقِ فَالْكَلَامُ في هذا الْفصل في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ وفي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهَا وفي بَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَوُجُوبُهَا ثَابِتٌ بِالْكتاب وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكتاب فَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ مَعْطُوفًا على قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا‏}‏ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يُحْمَلُ على الْوُجُوبِ وَالْإِنْفَاقُ عليهم إحْسَانٌ بِهِمْ فَكَانَ وَاجِبًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ أَمْرًا بِتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ عليهم لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَتْرُكُ أَصْلَ النَّفَقَةِ على مَمْلُوكِهِ إشْفَاقًا على مِلْكِهِ وقد يُقَتِّرُ في الْإِنْفَاقِ عليه لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا في يَدِهِ فَأَمَرَ اللَّهُ عز وجل السَّادَاتِ بِتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ على مَمَالِيكِهِمْ شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عليهم حَيْثُ جَعَلَ من هو من جَوْهَرِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ في الْخِلْقَةِ خَدَمًا وَخَوَلًا أَذِلَّاءَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ يَسْتَخْدِمُونَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُونَهُمْ في حَوَائِجِهِمْ‏.‏

وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان يُوصِي بِالْمَمْلُوكِ خَيْرًا وَيَقُولُ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما لَا يُطِيقُونَ فإن اللَّهَ تَعَالَى يقول‏:‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا‏}‏ وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه قال كان آخِرُ وَصِيَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حين حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ الصَّلَاةَ وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَجَعَلَ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُغَرْغِرُ بها في صَدْرِهِ وما يَقْبِضُ بها لِسَانَهُ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِ وَاجِبَةٌ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ فَلَوْ لم تُجْعَلْ نَفَقَتُهُ على مَوْلَاهُ لَهَلَكَ‏.‏

فصل سَبَبِ وُجُوبِهَا

وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهَا فَالْمِلْكُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمَمْلُوكِ انْتِفَاعًا وَتَصَرُّفًا وهو نَفْسُ الْمِلْكِ فإذا كانت مَنْفَعَتُهُ لِلْمَالِكِ كانت مُؤْنَتُهُ عليه إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَعَلَى هذا يبني أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لِأَنَّ أُمَّهُ إنْ كانت حُرَّةً فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ كانت مَمْلُوكَةً فَهُوَ مِلْكُ مَوْلَاهَا فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ على الْمَوْلَى وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا مَالَ له بَلْ هو وما في يَدِهِ لِمَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عن هذا الْوَلَدِ فَكَيْفَ تَجِبُ النَّفَقَةُ في مَالِ الْغَيْرِ لِمِلْكِ الْغَيْرِ وَكَذَا لَا يَجِبُ على الْحُرِّ نَفَقَةُ وَلَدِهِ الْمَمْلُوكِ بِأَنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ أَمَةَ غَيْرِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِأَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ فَلَا تَجِبُ عليه نَفَقَةُ مَمْلُوكِ غَيْرِهِ وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الْمِلْكُ ثُمَّ إنْ كان بَالِغًا صَحِيحًا فَنَفَقَتُهُ في كَسْبِهِ وَإِنْ كان صَغِيرًا أو زَمِنًا قالوا أن نَفَقَتَهُ في بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ من الْمُسْلِمِينَ حُرٌّ عَاجِزٌ لَا يُعْرَفُ له قَرِيبٌ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فيه وَكَذَا اللَّقِيطُ إذَا لم يَكُنْ معه مَالٌ فَنَفَقَتُهُ في بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا‏.‏

وَقَالُوا في الصَّغِيرِ في يَدِ رَجُلٍ قال لِرَجُلٍ هذا عَبْدُك أو دعتنيه فَجَحَدَ قال مُحَمَّدٌ أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ عز وجل ما أَوْدَعْته فَإِنْ حَلَفَ قَضَيْت بِنَفَقَتِهِ على الذي هو في يَدِهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِرِقِّهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ وقد رَدَّ الْغَيْرُ إقْرَارَهُ فَبَقِيَ في يَدِهِ وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ فَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ كان كَبِيرًا لم أَسْتَحْلِفْ الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّهُ إذَا كان كَبِيرًا كان في يَدِ نَفْسِهِ وكان دَعْوَاهُ هَدَرًا فَيَقِفُ الْأَمْرُ على دَعْوَى الْكَبِيرِ فَكُلُّ من ادَّعَى عليه أَنَّهُ عَبْدُهُ وَصَدَّقَهُ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَوْ كان الْعَبْدُ بين شَرِيكَيْنِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا وَكَذَلِكَ لو كان في أَيْدِيهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ له وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا وَقَالُوا في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بين اثْنَيْنِ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَيَانِ أن نَفَقَةَ هذا الْوَلَدِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْوَلَدِ إذَا كَبِرَ نَفَقَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبٌ كَامِلٌ في حَقِّهِ وَالله أعلم‏.‏

فصل شَرْطِ وُجُوبِهَا

وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مَمْلُوكَ الْمَنَافِعِ وَالْمَكَاسِبِ لِلْمَوْلَى فَإِنْ لم يَكُنْ فَلَا تَجِبُ عليه نَفَقَتُهُ فَيَجِبُ على الْإِنْسَانِ نَفَقَةُ عَبْدِهِ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ أَكْسَابَهُمْ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَا تَجِبُ عليه نَفَقَةُ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكِ الْمَكَاسِبِ لِمَوْلَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ من مَوْلَاهُ فَكَانَ في مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ في كَسْبِهِ كَالْحُرِّ وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عليه دَيْنٌ وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ نَفَقَتُهُ على صَاحِبِ الْخِدْمَةِ لَا على صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ وَنَفَقَةُ عبد الرَّهْنِ على الرَّاهِنِ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ له وَنَفَقَةُ عبد الْوَدِيعَةِ على الْمُودِعِ لِمَا قُلْنَا وَنَفَقَةُ عبد الْعَارِيَّةِ على الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ في زَمَنِ الْعَارِيَّةِ له إذْ الْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَنَفَقَةُ عبد الْغَصْبِ قبل الرَّدِّ على الْغَاصِبِ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تَحْدُثُ على مِلْكِهِ على بَعْضِ طُرُقِ أَصْحَابِنَا حتى لو لم تَكُنْ مَضْمُونَةً على الْغَاصِبِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عليه وَلِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ على الْغَاصِبِ وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عليه لِكَوْنِهَا من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ وَالنَّفَقَةُ من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِاسْتِبْقَائِهِ وَلَا يَبْقَى عَادَةً إلَّا بِالنَّفَقَةِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ من مُؤْنَاتِ الرَّدِّ لِكَوْنِهَا من ضَرُورَاتِهِ فَكَانَتْ على الْغَاصِبِ وَالله أعلم‏.‏

فصل مِقْدَار الْوَاجِبِ منها

وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ منها فَمِقْدَارُ الْكِفَايَةِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْكِفَايَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ‏.‏

فصل كَيْفِيَّة وُجُوبِهَا

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَإِنَّهَا تَجِبُ على وَجْهٍ يُجْبَرُ عليها عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ في الْجُمْلَةِ بَيَانُ ذلك أَنَّ الْمَمْلُوكَ إذَا خَاصَمَ مَوْلَاهُ في النَّفَقَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فإن الْقَاضِيَ يأمر ‏[‏يأمره‏]‏ بِالنَّفَقَةِ عليه فَإِنْ أَبَى يَنْظُرُ الْقَاضِي فَكُلُّ من يَصْلُحُ لِلْإِجَارَةِ يُؤَاجِرُهُ وَيُنْفِقُ عليه من أُجْرَتِهِ أو يَبِيعُهُ إنْ كان مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْقِنِّ ورأى الْبَيْعِ أَصْلَحُ وَلَا يُجْبَرُ على الْإِنْفَاقِ وَإِنْ لم يَصْلُحْ لِلْإِجَارَةِ بِأَنْ كان صَغِيرًا أو جَارِيَةً وَلَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يُجْبِرُهُ على الْإِنْفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَلَا إجَارَتُهُ وَتَرْكُهُ جَائِعًا تَضْيِيعٌ إلَى آدَمِيٍّ فَيُجْبَرُ الْمَوْلَى على الْإِنْفَاقِ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

وَأَمَّا نَفَقَةُ الْبَهَائِمِ فَلَا يُجْبَرُ عليها في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَكِنَّهُ يفتي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقَ عليها وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عليها لِأَنَّ في تَرْكِهِ جَائِعًا تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَتَضْيِيعَ الْمَالِ وَنَهَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ذلك كُلِّهِ وَلِأَنَّهُ سَفَهٌ لِخُلُوِّهِ عن الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ وَالسَّفَهُ حَرَامٌ عَقْلًا‏.‏

وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجَبْرَ على الْحَقِّ يَكُونُ عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ من صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا خَصْمَ فَلَا يُجْبَرُ وَلَكِنْ تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْجَمَادَاتِ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ فَلَا يُجْبَرُ عليها لِمَا قُلْنَا وَلَا يفتي أَيْضًا بِالْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان هُنَاكَ تَضْيِيعَ الْمَالِ فَيُكْرَهُ له ذلك وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

كتاب الْحَضَانَةِ

الْكَلَامُ في هذا الْكتاب في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ الْحَضَانَةِ وفي بَيَانِ من له الْحَضَانَةُ وفي بَيَانِ مُدَّةِ الْحَضَانَةِ وفي بَيَانِ مَكَانِ الْحَضَانَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَضَانَةُ في اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ في مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا جَعْلُ الشَّيْءِ في نَاحِيَةٍ يُقَالُ حَضَنَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ أَيْ اعْتَزَلَهُ فَجَعَلَهُ في نَاحِيَةٍ منه وَالثَّانِي الضَّمُّ إلَى الْجَنْبِ يُقَالُ حَضَنْته وَاحْتَضَنْته إذَا ضَمَمْته إلَى جَنْبِك وَالْحَضْنُ الْجَنْبُ فَحَضَانَةُ الْأُمِّ وَلَدَهَا هِيَ ضَمُّهَا إيَّاهُ إلَى جَنْبِهَا وَاعْتِزَالُهَا إيَّاهُ من أبيه لِيَكُونَ عِنْدَهَا فَتَقُومَ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ على إرْضَاعِهِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ من تُرْضِعُهُ فَتُجْبَرَ عليه وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ إنْ كانت شَرِيفَةً لم تُجْبَرْ وَإِنْ كانت دَنِيَّةً تُجْبَرْ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا‏}‏ قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أَيْ لَا تُضَارَّ بِإِلْزَامِ الْإِرْضَاعِ مع كَرَاهَتِهَا وَقَوْلِهِ عز وجل في الْمُطَلَّقَاتِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ جَعَلَ تَعَالَى أَجْرَ الرَّضَاعِ على الْأَبِ لَا على الْأُمِّ مع وُجُودِهَا فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ ليس على الْأُمِّ‏.‏

وَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ أَيْ رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُطَلَّقَاتُ فَفِيهِ أَنَّهُ لَا إرْضَاعَ على الْأُمِّ حَيْثُ أَوْجَبَ بَدَلَ الْإِرْضَاعِ على الْأَبِ مع وُجُودِ الْأُمِّ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْكُوحَاتُ كان الْمُرَادُ منه وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏ إيجَابَ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ على الْأَبِ لِلْأُمِّ الْمُرْضِعَةِ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَإِلَّا فَالنَّفَقَةُ تَسْتَحِقُّهَا الْمَنْكُوحَةُ من غَيْرِ وَلَدٍ وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ إنْفَاقٌ على الْوَلَدِ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ يَخْتَصُّ بها الْوَالِدُ لَا يُشَارِكُهُ فيها الْأُمُّ كَنَفَقَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ فَكَمَا لَا تَجِبُ عليها نَفَقَتُهُ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ لَا تَجِبُ عليها قَبْلَهُ وهو إرْضَاعُهُ وَهَذَا في الْحُكْمِ‏.‏

وَأَمَّا في الْفَتْوَى فَتُفْتَى بِأَنَّهَا تُرْضِعُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا‏}‏ قِيلَ في بَعْضِ تَأْوِيلَاتِ الْآيَةِ أَيْ لَا تُضَارَّ بِوَلَدِهَا بِأَنْ تَرْمِيَهُ على الزَّوْجِ بَعْدَ ما عَرَفَهَا وَأَلِفَهَا وَلَا تُرْضِعَهُ فَيَتَضَرَّرَ الْوَلَدُ وَمَتَى تَضَرَّرَ الْوَلَدُ تَضَرَّرَ الْوَالِدُ لِأَنَّهُ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وقد قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا مَوْلُودٌ له بِوَلَدِهِ‏}‏ أَيْ لَا يُضَارَّ الْمَوْلُودُ له بِسَبَبِ الْإِضْرَارِ بِوَلَدِهِ كَذَا قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ سَكَنٍ وَازْدِوَاجٍ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا على مَصَالِحِ النِّكَاحِ وَمِنْهَا إرْضَاعُ الْوَلَدِ فَيُفْتَى بِهِ وَلَكِنَّهَا إنْ أَبَتْ لَا تُجْبَرُ عليه لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا كان لَا يُوجَدُ من يُرْضِعُهُ فَحِينَئِذٍ تُجْبَرُ على إرْضَاعِهِ إذْ لو لم تُجْبَرْ عليه لَهَلَكَ الْوَلَدُ وَلَوْ الْتَمَسَ الْأَبُ لِوَلَدِهِ مُرْضِعًا فَأَرَادَتْ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ بِنَفْسِهَا فَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَشْفَقُ عليه وَلِأَنَّ في انْتِزَاعِ الْوَلَدِ منها إضْرَارًا بها وأنه مَنْهِيٌّ عنه لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا‏}‏ قِيلَ في بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ أَيْ لَا يُضَارَّهَا زَوْجُهَا بِانْتِزَاعِ الْوَلَدِ منها وَهِيَ تُرِيدُ إمْسَاكَهُ وَإِرْضَاعَهُ فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ على ذلك أَجْرًا في صُلْبِ النِّكَاحِ لم يَجُزْ لها ذلك لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ وَإِنْ لم يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عليها في الْحُكْمِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ في الْفَتْوَى وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الأجر على أَمْرٍ مُسْتَحَقٍّ لِأَنَّهُ يَكُونُ رِشْوَةً وَلِأَنَّهَا قد اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ النِّكَاحِ وَأُجْرَةَ الرَّضَاعِ وَأُجْرَةُ الرَّضَاعِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ فَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَتَيْنِ وَلِأَنَّ أَجْرَ الرَّضَاعِ يَجِبُ لِحِفْظِ الصَّبِيِّ وَغُسْلِهِ وهو من نَظَافَةِ الْبَيْتِ وَمَنْفَعَةُ الْبَيْتِ تَحْصُلُ لِلزَّوْجَيْنِ فَلَا يَجُوزُ لها أَنْ تَأْخُذَ عِوَضًا عن مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لها حتى لو اسْتَأْجَرَهَا على إرْضَاعِ وَلَدِهِ من غَيْرِهَا جَازَ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ وَاجِبٍ عليها فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الأجرةِ على فِعْلٍ وَاجِبٍ عليها وَكَذَا ليس في حِفْظِهِ مَنْفَعَةٌ تَعُودُ إلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليها أَنْ تُسْكِنَهُ مَعَهَا‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا كانت مُعْتَدَّةً من طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَا يَحِلُّ لها أَنْ تَأْخُذَ الأجرةَ كما لَا يَجُوزُ في صُلْبِ النِّكَاحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ من كل وَجْهٍ وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ لها أَنْ تَأْخُذَ الأجر لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى في حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَلَا يَحِلُّ لها الأجرةُ كما لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ وفي رِوَايَةٍ يَجُوزُ لِأَنَّ النِّكَاحَ قد زَالَ بِالْإِبَانَةِ فَصَارَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ وَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَالْتَمَسَتْ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ وقال الْأَبُ أنا أَجِدُ من يُرْضِعُهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ أو بِأَقَلَّ من ذلك فَذَلِكَ له لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ له أُخْرَى‏}‏ وَلِأَنَّ في إلْزَامِ الْأَبِ بِمَا تَلْتَمِسُهُ الْأُمُّ إضْرَارًا بِالْأَبِ وقد قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا مَوْلُودٌ له بِوَلَدِهِ‏}‏ أَيْ لَا يُضَارَّ الْأَبُ بِالْتِزَامِ الزِّيَادَةِ على ما تَلْتَمِسُهُ الْأَجْنَبِيَّةُ كَذَا ذُكِرَ في بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ وَلَكِنْ تُرْضِعُهُ عِنْدَ الْأُمِّ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِمَا فيه من إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْأُمِّ وَالله أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ من له الْحَضَانَةُ

وَأَمَّا بَيَانُ من له الْحَضَانَةُ فَالْحَضَانَةُ تَكُونُ لِلنِّسَاءِ في وَقْتٍ وَتَكُونُ لِلرِّجَالِ في وَقْتٍ وَالْأَصْلُ فيها النِّسَاءُ لِأَنَّهُنَّ أَشْفَقُ وَأَرْفَقُ وَأَهْدَى إلَى تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ ثُمَّ تُصْرَفُ إلَى الرِّجَالِ لِأَنَّهُمْ على الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الصِّغَارِ أَقْدَرُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ شَرْطِ الْحَضَانَتَيْنِ وَوَقْتِهِمَا أَمَّا التي لِلنِّسَاءِ فَمِنْ شَرَائِطِهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الصِّغَارِ فَلَا حَضَانَةَ لِبَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْخَالِ وَبَنَاتِ الْعَمَّةِ وَبَنَاتِ الْخَالَةِ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَضَانَةِ على بالشفقة ‏[‏الشفقة‏]‏ وَالرَّحِمُ الْمَحْرَمُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بالنفقة ‏[‏بالشفقة‏]‏ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فيها الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَأَحَقُّ النِّسَاءِ من ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِالْحَضَانَةِ الْأُمُّ لِأَنَّهُ لَا أَقْرَبَ منها ثُمَّ أُمُّ الْأُمِّ ثُمَّ أُمُّ الْأَبِ لِأَنَّ الْجَدَّتَيْنِ وَإِنْ اسْتَوَيَتَا في الْقُرْبِ لَكِنْ إحْدَاهُمَا من قِبَلِ الْأُمِّ أَوْلَى وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مُسْتَفَادَةٌ من قِبَلِ الْأُمِّ فَكُلُّ من يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ كان أَوْلَى لِأَنَّهَا تَكُونُ أَشْفَقَ ثُمَّ الْأَخَوَاتُ فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى من الْأُخْتِ لِأَنَّ لها وِلَادًا فَكَانَتْ أَدْخَلَ في الْوِلَايَةِ وَكَذَا هِيَ أَشْفَقُ وَأَوْلَى الْأَخَوَاتِ الْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأَبٍ لِأَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ وَأُمٍّ تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ فَتُرَجَّحُ على الْأُخْتِ لِأُمٍّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ وَتُرَجَّحُ الْأُخْتُ لِأُمٍّ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَكَانَتْ أَوْلَى من الْأُخْتِ لِأَبٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ في الْأُخْتِ لِأَبٍ مع الْخَالَةِ أَيَّتُهُمَا أَوْلَى روى عنه في كتاب النِّكَاحِ أَنَّ الْخَالَةَ أَوْلَى وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وروى عنه في كتاب الطَّلَاقِ أَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ أَوْلَى‏.‏

وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ما رُوِيَ أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ لَمَّا رَأَتْ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه تَمَسَّكَتْ بِهِ وَقَالَتْ ابْنَ عَمِّي فَأَخَذَهَا فَاخْتَصَمَ فيها عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدُ بن حَارِثَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فقال رضي اللَّهُ عنه بِنْتُ عَمِّي وقال جَعْفَرٌ بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا عِنْدِي وقال زَيْدُ بن حَارِثَةَ رضي اللَّهُ عنه بِنْتُ أَخِي آخَيْت بَيْنِي وَبَيْنَ حَمْزَةَ يا رَسُولَ اللَّهِ فَقَضَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بها لِخَالَتِهَا وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَالَةُ وَالِدَةٌ فَقَدْ سَمَّى الْخَالَةَ وَالِدَةً فَكَانَتْ أَوْلَى‏.‏ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ بِنْتُ الْأَبِ وَالْخَالَةَ بِنْتُ الْجَدِّ فَكَانَتْ الْأُخْتُ أَقْرَبَ فَكَانَتْ أَوْلَى وَبِنْتُ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى من الْخَالَةِ لِأَنَّهَا من وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ وَكَذَا بِنْتُ الْأُخْتِ لِأُمٍّ لِأَنَّهَا من وَلَدِ الْأُمِّ وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدِّ وَكَذَا بِنْتُ الْأُخْتِ لِأَبٍ أَوْلَى من الْخَالَةِ على الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّهَا من وَلَدِ الْأَبِ وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدِّ فَكَانَتْ أَوْلَى‏.‏

وَأَمَّا على الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَالَةَ تَتَقَدَّمُ عليها لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ على أُمِّهَا وَهِيَ الْأُخْتُ لِأَبٍ فَلَأَنْ تَتَقَدَّمَ على بِنْتِهَا وَهِيَ أَبْعَدُ من أُمِّهَا أَوْلَى وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَوْلَى من بَنَاتِ الْأَخِ لِأَنَّ الْأَخَ لَا حَقَّ له في الْحَضَانَةِ وَالْأُخْتُ لها حَقٌّ فيها فَكَانَ وَلَدُ الْأُخْتِ أَوْلَى وَالْخَالَاتُ أَوْلَى من بَنَاتِ الْأَخِ لِأَنَّ بِنْتَ الْأَخِ تُدْلِي بِقَرَابَةِ الذَّكَرِ وَالْخَالَةُ تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَكَانَتْ الْخَالَةُ أَوْلَى وَبَنَاتُ الْأَخِ أَوْلَى من الْعَمَّاتِ وَإِنْ كانت كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَعْنِي بِنْتَ الْأَخِ وَالْعَمَّةَ تُدْلِي بِذَكَرٍ لَكِنَّ بِنْتَ الْأَخِ أَقْرَبُ لِأَنَّهَا وَلَدُ الْأَبِ وَالْعَمَّةُ وَلَدُ الْجَدِّ فَكَانَتْ بِنْتُ الْأَخِ أَقْرَبَ فَكَانَتْ أَوْلَى ثُمَّ الْخَالَاتُ أَوْلَى من الْعَمَّاتِ وَإِنْ تَسَاوَيْنَ في الْقُرْبِ لِأَنَّ الْخَالَاتِ يُدْلِينَ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَكُنَّ أَشْفَقَ وَأَوْلَى الْخَالَاتِ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ ثُمَّ الْخَالَةُ لِأُمٍّ لِإِدْلَائِهَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ثُمَّ الْخَالَةُ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَمَّاتُ وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في كتاب الطَّلَاقِ أَنَّ أُمَّ الْأَبِ أَوْلَى من الْخَالَةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وقال زُفَرُ الْخَالَةُ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَالَةُ وَالِدَةٌ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ أُمَّ الْأَبِ لها ولاد ‏[‏أولاد‏]‏ وَالْوِلَايَةُ في الْأَصْلِ مُسْتَفَادَةٌ بِالْوِلَادِ وَأَوْلَى الْعَمَّاتِ الْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِأُمٍّ لِاتِّصَالِهَا بِجِهَةِ الْأُمِّ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأَمَّا بَنَاتُ الْعَمِّ وَالْخَالِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَلَا حَقَّ لَهُنَّ في الْحَضَانَةِ لِعَدَمِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَالله أعلم‏.‏ وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ ذَاتَ زَوْجٍ أَجْنَبِيٍّ من الصَّغِيرِ فَإِنْ كانت فَلَا حَقَّ لها في الْحَضَانَةِ وَأَصْلُهُ ما رَوَى عَمْرُو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هذا كان بَطْنِي له وِعَاءً وَحِجْرِي له حِوَاءً وَثَدْيِي له سِقَاءً وَيَزْعُمُ أَبُوهُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ منه ما لم تَنْكِحِي‏.‏

وَرُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قال طَلَّقَ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه أُمَّ ابْنِهِ عَاصِمٍ رضي اللَّهُ عنه فَلَقِيَهَا وَمَعَهَا الصَّبِيُّ فَنَازَعَهَا وَارْتَفَعَا إلَى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه فَقَضَى أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه بِعَاصِمِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما ‏[‏عنهم‏]‏ لِأُمِّهِ ما لم يَشِبَّ أو تَتَزَوَّجْ وقال إنَّ رِيحَهَا وَفِرَاشَهَا خَيْرٌ له حتى يَشِبَّ أو تَتَزَوَّجَ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَلْحَقُهُ الْجَفَاءُ وَالْمَذَلَّةُ من قِبَلِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَبْغَضُهُ لِغَيْرَتِهِ وَيَنْظُرُ إلَيْهِ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عليه من الْمَوْتِ وَيُقَتِّرُ عليه النَّفَقَةَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ حتى لو تَزَوَّجَتْ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الصَّبِيِّ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا في الْحَضَانَةِ كَالْجَدَّةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِجَدِّ الصَّبِيِّ أو الْأُمِّ تَزَوَّجَتْ بِعَمِّ الصَّبِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْجَفَاءُ مِنْهُمَا لِوُجُودِ الْمَانِعِ من ذلك وهو الْقَرَابَةُ الْبَاعِثَةُ على الشَّفَقَةِ وَلَوْ مَاتَ عنها زَوْجُهَا أو أَبَانَهَا عَادَ حَقُّهَا في الْحَضَانَةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ قد زَالَ فَيَزُولُ الْمَنْعُ وَيَعُودُ حَقُّهَا وَتَكُونُ هِيَ أَوْلَى مِمَّنْ هِيَ أَبْعَدُ منها كما كانت وَمِنْهَا عَدَمُ رِدَّتِهَا حتى لو ارْتَدَّتْ عن الْإِسْلَامِ بَطَلَ حَقُّهَا في الْحَضَانَةِ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُحْبَسُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الصَّبِيُّ وَلَوْ تَابَتْ وَأَسْلَمَتْ يَعُودُ حَقُّهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عن النِّسَاءِ إذَا اجْتَمَعْنَ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ قال يَضَعُهُ الْقَاضِي حَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُنَّ فَصَارَ كَمَنْ لَا قَرَابَةَ له‏.‏

وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً فَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ في حَضَانَةِ الْوَلَدِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْحَضَانَةَ ضَرْبٌ من الْوِلَايَةِ وَهُمَا لَيْسَتَا من أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَأَمَّا إذَا أُعْتِقَتَا فَهُمَا في الْحَضَانَةِ كَالْحُرَّةِ لِأَنَّهُمَا اسْتَفَادَتَا الْوِلَايَةَ بِالْعِتْقِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ في هذه الْحَضَانَةِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ هذا الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وأنه لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَكَذَا اتِّحَادُ الدِّينِ ليس بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ هذا الْحَقِّ حتى لو كانت الْحَاضِنَةُ كتابيَّةً وَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ كانت في الْحَضَانَةِ كَالْمُسْلِمَةِ كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ لِمَا قُلْنَا وكان أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بن عَلِيٍّ الرَّازِيّ يقول إنَّهَا أَحَقُّ بِالصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ حتى يَعْقِلَا فإذا عَقَلَا سَقَطَ حَقُّهَا لِأَنَّهَا تُعَوِّدُهُمَا أَخْلَاقَ الْكَفَرَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمَا وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ‏.‏

فصل وَقْت الْحَضَانَةِ

وَأَمَّا وَقْتُ الْحَضَانَةِ التي من قِبَلِ النِّسَاءِ فَالْأُمُّ وَالْجَدَّتَانِ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ حتى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُنَّ فَيَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ أبو دَاوُد بن رَشِيدٍ عن مُحَمَّدٍ وَيَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِنْجَاءَ أَيْ وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ ولم يُقَدِّرْ في ذلك تَقْدِيرًا وَذَكَرَ الْخَصَّافُ سَبْعَ سِنِينَ أو ثَمَانِ سِنِينَ أو نحو ذلك وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَهِيَ أَحَقُّ بها حتى تَحِيضَ كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ‏.‏

وَحَكَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ حتى تَبْلُغَ أو تشتهى وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ تَتَوَقَّتَ الْحَضَانَةُ بِالْبُلُوغِ في الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ جميعا لِأَنَّهَا ضَرْبُ وِلَايَةٍ وَلِأَنَّهَا ثَبَتَتْ لِلْأُمِّ فَلَا تَنْتَهِي إلَّا بِالْبُلُوغِ كَوِلَايَةِ الْأَبِ في الْمَالِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ في الْغُلَامِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه قَضَى بِعَاصِمِ بن عُمَرَ لِأُمِّهِ ما لم يَشِبَّ عَاصِمٌ أو تَتَزَوَّجْ أُمُّهُ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ في الْغُلَامِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَبَقِيَ الْحُكْمُ في الْجَارِيَةِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا اسْتَغْنَى يَحْتَاجُ إلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الرِّجَالِ وَتَحْصِيلِ أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَاكْتِسَابِ أَسْباب الْعُلُومِ وَالْأَبُ على ذلك أَقْوَمُ وَأَقْدَرُ مع ما أَنَّهُ لو تُرِكَ في يَدِهَا لَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ النِّسَاءِ وَتَعَوَّدَ بِشَمَائِلِهِنَّ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في الْجَارِيَةِ فَتُتْرَكُ في يَدِ الْأُمِّ بَلْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى التَّرْكِ في يَدِهَا إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ لِحَاجَتِهَا إلَى تَعَلُّمِ آدَابِ النِّسَاءِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِنَّ وَخِدْمَةِ الْبَيْتِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك إلَّا وَأَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْأُمِّ ثُمَّ بَعْدَ ما حَاضَتْ أو بَلَغَتْ عِنْدَ الْأُمِّ حَدَّ الشَّهْوَةِ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى حِمَايَتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا عَمَّنْ يَطْمَعُ فيها لِكَوْنِهَا لَحْمًا على وَضَمٍ فَلَا بُدَّ مِمَّنْ يَذُبُّ عنها وَالرِّجَالُ على ذلك أَقْدَرُ‏.‏

وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ من ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ من الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ إذَا كان الصَّغِيرُ عِنْدَهُنَّ فَالْحُكْمُ في الْجَارِيَةِ كَالْحُكْمِ في الْغُلَامِ وهو أنها تُتْرَكُ في أَيْدِيهِنَّ إلَى أَنْ تَأْكُلَ وَحْدَهَا وَتَشْرَبَ وَحْدَهَا وَتَلْبَسَ وَحْدَهَا ثُمَّ تُسَلَّمَ إلَى الْأَبِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهَا وَإِنْ كانت تَحْتَاجُ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ إلَى تَعَلُّمِ آدَابِ النِّسَاءِ لَكِنْ في تَأْدِيبِهَا اسْتِخْدَامُهَا وَوِلَايَةُ الِاسْتِخْدَامِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لِغَيْرِ الْأُمَّهَاتِ من الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ فَتُسَلِّمُهَا إلَى الْأَبِ احْتِرَازًا عن الْوُقُوعِ في الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا التي لِلرِّجَالِ فَأَمَّا وَقْتُهَا فما بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ في الْغُلَامِ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ وَبَعْدَ الْحَيْضِ في الْجَارِيَةِ إذَا كانت عِنْدَ الْأُمِّ أو الْجَدَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَا عِنْدَ غَيْرِهِنَّ فما بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ فِيهِمَا جميعا إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى وَإِنَّمَا تَوَقَّتَ هذا الْحَقُّ إلَى وَقْتِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الرِّجَالِ على الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ تَزُولُ بِالْبُلُوغِ كَوِلَايَةِ الْمَالِ غير أَنَّ الْغُلَامَ إذَا كان غير مَأْمُونٍ عليه فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ كيلا يَكْتَسِبَ شيئا عليه وَلَيْسَ عليه نَفَقَتُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُ وَاسْتَغْنَى عن الْأَبِ وهو مَأْمُونٌ عليه فَلَا حَقَّ لِلْأَبِ في إمْسَاكِهِ كما ليس له أَنْ يَمْنَعَهُ من مَالِهِ فَيُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فَيَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَالْجَارِيَةُ إنْ كانت ثَيِّبًا وَهِيَ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ على نَفْسِهَا لَا يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا وَيَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كانت مَأْمُونَةً على نَفْسِهَا فَلَا حَقَّ له فيها وَيُخَلِّي سَبِيلَهَا وَتُتْرَكُ حَيْثُ أَحَبَّتْ وَإِنْ كانت بِكْرًا لَا يُخَلِّي سَبِيلَهَا وَإِنْ كانت مَأْمُونَةً على نَفْسِهَا لِأَنَّهَا مَطْمَعٌ لِكُلِّ طَامِعٍ ولم تَخْتَبِرْ الرِّجَالَ فَلَا يُؤْمَنُ عليها الْخِدَاعُ وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمِنْ شَرَائِطِهَا الْعُصُوبَةِ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا لِلْعَصَبَةِ من الرِّجَالِ وَيَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ ثُمَّ ابن الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ ابن الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ ثُمَّ ابن الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ ابن الْعَمِّ لِأَبٍ إنْ كان الصَّبِيُّ غُلَامًا وَإِنْ كان جَارِيَةً فَلَا تُسَلَّمُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ليس بِمَحْرَمٍ منها لِأَنَّهُ يَجُوزُ له نِكَاحُهَا فَلَا يؤتمن ‏[‏يؤمن‏]‏ عليها‏.‏

وَأَمَّا الْغُلَامُ فإنه عَصَبَةٌ وَأَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ هو أَبْعَدُ منه ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ لِأَبٍ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لِأَبٍ وَلَوْ كان لها ثَلَاثَةُ أخوة كلهم على دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ كَانُوا كلهم لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو ثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ كلهم على دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَفْضَلُهُمْ صَلَاحًا وَوَرَعًا أَوْلَى فَإِنْ كَانُوا في ذلك سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا أَوْلَى بِالْحَضَانَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ لِلْجَارِيَةِ من عَصَبَاتِهَا غَيْرُ ابْنِ الْعَمِّ اخْتَارَ لها الْقَاضِي أَفْضَلَ الْمَوَاضِعِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ في هذه الْحَالَةِ إلَيْهِ فَيُرَاعِي الْأَصْلَحَ فَإِنْ رَآهُ أَصْلَحَ ضَمَّهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَيَضَعْهَا عِنْدَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَمِينَةٍ وَكُلُّ ذَكَرٍ من قِبَلِ النِّسَاءِ فَلَا حَقَّ له في الْوَلَدِ مِثْلُ الْأَخِ لِأُمٍّ وَالْخَالِ وأبو ‏[‏وأبي‏]‏ الْأُمِّ لِانْعِدَامِ الْعُصُوبَةِ وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان لِلْجَارِيَةِ ابن عَمٍّ وَخَالٌ وَكِلَاهُمَا لَا بَأْسَ بِهِ في دِينِهِ جَعَلَهَا الْقَاضِي عِنْدَ الْخَالِ لِأَنَّهُ مَحْرَمٌ وابن الْعَمِّ ليس بِمَحْرَمٍ فَكَانَ الْمَحْرَمُ أَوْلَى وَالْأَخُ من الْأَبِ أَحَقُّ من الْخَالِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وهو أَيْضًا أَقْرَبُ لِأَنَّهُ من أَوْلَادِ الْأَبِ وَالْخَالُ من أَوْلَادِ الْجَدِّ وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا لم يَكُنْ له قَرَابَةٌ من قِبَلِ النِّسَاءِ فَالْعَمُّ أَوْلَى بِهِ من الْخَالِ وأبو ‏[‏وأبي‏]‏ الْأُمِّ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ وَالْأَخُ لِأَبٍ أَوْلَى من الْعَمِّ وَكَذَلِكَ ابن الْأَخِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فَإِنْ لم تَكُنْ له قَرَابَةٌ أَشْفَقُ من جِهَةِ أبيه من الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فإن الْأُمَّ أَوْلَى من الْخَالِ وَالْأَخِ لِأُمٍّ لِأَنَّ لها وِلَادًا وَهِيَ أَشْفَقُ مِمَّنْ لَا وِلَادَ له من ذَوِي الْأَرْحَامِ‏.‏

وَمِنْهَا إذَا كان الصَّغِيرُ جَارِيَةً أَنْ تَكُونَ عَصَبَتُهَا مِمَّنْ يُؤْتَمَنُ عليها فَإِنْ كان لَا يُؤْتَمَنُ لِفِسْقِهِ وَلِخِيَانَتِهِ لم يَكُنْ له فيها حَقٌّ لِأَنَّ في كَفَالَتِهِ لها ضرر ‏[‏ضررا‏]‏ عليها وَهَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ فَلَا تَثْبُتُ مع الضَّرَرِ حتى لو كانت الْإِخْوَةُ وَالْأَعْمَامُ غير مَأْمُونِينَ على نَفْسِهَا وَمَالِهَا لَا تُسَلَّمُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُ الْقَاضِي امْرَأَةً من الْمُسْلِمِينَ ثِقَةً عَدْلَةٌ أَمِينَةٍ فَيُسَلِّمُهَا إلَيْهَا إلَى أَنْ تَبْلُغَ فَتُتْرَكَ حَيْثُ شَاءَتْ وَإِنْ كانت بِكْرًا‏.‏

وَمِنْهَا اتِّحَادُ الدِّينِ فَلَا حَقَّ لِلْعَصَبِيَّةِ في الصَّبِيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ على دِينِهِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وقال هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَقِيَاسُهُ لِأَنَّ هذا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِلْعَصَبَةِ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَمْنَعُ التَّعْصِيبَ وقد قالوا في الْأَخَوَيْنِ إذَا كان أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ يَهُودِيًّا وَالصَّبِيُّ يَهُودِيٌّ أن الْيَهُودِيَّ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ لَا الْمُسْلِمَ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ‏.‏ وَلَا خِيَارَ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ إذَا اخْتَلَفَ الْأَبَوَانِ فِيهِمَا قبل الْبُلُوغِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيّ يُخَيَّرُ الْغُلَامُ إذَا عَقَلَ التَّخْيِيرَ‏.‏

وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَنْتَزِعَ ابن ‏[‏ابنه‏]‏ مِنِّي وأنه قد نَفَعَنِي وَسَقَانِي من بِئْرِ أبي عتبة ‏[‏عنبة‏]‏ فقال اسْتَهِمَا عليه فقال الرَّجُلُ من يستاقني ‏[‏يشاقني‏]‏ في ابْنِي فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلْغُلَامِ اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْت فَاخْتَارَ أُمَّهُ فَأَعْطَاهَا إيَّاهُ وَلِأَنَّ في هذا نَظَرٌ لِلصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْأَشْفَقَ وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْأُمِّ‏:‏ «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ ما لم تَنْكِحِي» ولم يُخَيِّرْ وَلِأَنَّ تَخْيِيرَ الصَّبِيِّ ليس بِحِكْمَةٍ لِأَنَّهُ لِغَلَبَةِ هَوَاهُ يَمِيلُ إلَى اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ من الْفَرَاغِ وَالْكَسَلِ وَالْهَرَبِ من الْكتاب وَتَعَلُّمِ آدَابِ النَّفْسِ وَمَعَالِمِ الدِّينِ فَيَخْتَارُ شَرَّ الْأَبَوَيْنِ وهو الذي يُهْمِلُهُ وَلَا يُؤَدِّبُهُ وَأَمَّا حَدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه فَالْمُرَادُ منه التَّخْيِيرُ في حَقِّ الْبَالِغِ لِأَنَّهَا قالت نَفَعَنِي وَسَقَانِي من بِئْرِ أبي عتبة ‏[‏عنبة‏]‏ وَمَعْنَى قَوْلِهَا نَفَعَنِي أَيْ كَسَبَ عَلَيَّ وَالْبَالِغُ هو الذي يَقْدِرُ على الْكَسْبِ وقد قِيلَ إنَّ بِئْرَ أبي عتبة ‏[‏عنبة‏]‏ بِالْمَدِينَةِ لَا يُمْكِنُ للصغير ‏[‏الصغير‏]‏ الِاسْتِقَاءَ منه فَدَلَّ على أَنَّ الْمُرَادَ منه التَّخْيِيرُ في حَقِّ الْبَالِغِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ يُخَيَّرُ وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن عمار ‏[‏عمارة‏]‏ بن رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ قال غَزَا أبي نحو الْبَحْرَيْنِ فَقُتِلَ فَجَاءَ عَمِّي لِيَذْهَبَ بِي فَخَاصَمَتْهُ أُمِّي إلَى عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه وَمَعِي أَخٌ لي صَغِيرٌ فَخَيَّرَنِي عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه ثَلَاثًا فَاخْتَرْت أُمِّي فَأَبَى عَمِّي أَنْ يَرْضَى فَوَكَزَهُ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه بيده وَضَرَبَهُ بِدِرَّتِهِ وقال لو بَلَغَ هذا الصَّبِيُّ أَيْضًا خُيِّرَ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ‏.‏

فصل بَيَانِ مَكَانِ الْحَضَانَةِ

وَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْحَضَانَةِ فَمَكَانُ الْحَضَانَةِ مَكَانُ الزَّوْجَيْنِ إذَا كانت الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا قَائِمَةً حتى لو أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَخْرُجَ من الْبَلَدِ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ مِمَّنْ له الْحَضَانَةُ من النِّسَاءِ ليس ذلك حتى يَسْتَغْنِيَ عنها لِمَا ذَكَرْنَا أنها أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ منه فَلَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ من يَدِهَا لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّهَا فَضْلًا عن الْإِخْرَاجِ من الْبَلَدِ وَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ من الْمِصْرِ الذي هِيَ فيه إلَى غَيْرِهِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا من الْخُرُوجِ سَوَاءٌ كان مَعَهَا وَلَدٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّ عليها الْمُقَامَ في بَيْتِ زَوْجِهَا وَكَذَلِكَ إذَا كانت مُعْتَدَّةً لَا يَجُوزُ لها الْخُرُوجُ مع الْوَلَدِ وَبِدُونِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ إخْرَاجُهَا لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا إذَا كانت مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا من الْبَلَدِ الذي هِيَ فيه إلَى بَلَدٍ فَهَذَا على أَقْسَامٍ إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَلَدِهَا وقد وَقَعَ النِّكَاحُ فيه فَلَهَا ذلك مِثْلُ أَنْ تَزَوَّجَ كُوفِيَّةً بِالْكُوفَةِ ثُمَّ نَقَلَهَا إلَى الشَّامِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ أَوْلَادَهَا إلَى الْكُوفَةِ فَلَهَا ذلك لِأَنَّ الْمَانِعَ هو ضَرَرُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ وقد رضي بِهِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا وهو التَّزَوُّجُ بها في بَلَدِهَا لِأَنَّ من تَزَوَّجَ امْرَأَةً في بَلَدِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقِيمُ فيه وَالْوَلَدُ من ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فَكَانَ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ في ذلك البلد فَكَانَ رَاضِيًا بِالتَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ ما دَامَ قَائِمًا يَلْزَمُهَا اتِّبَاعُ الزَّوْجِ فإذا زَالَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ في غَيْرِ بَلَدِهَا لم يَكُنْ لها أَنْ تَنْتَقِلَ بِوَلَدِهَا إلَى بَلَدِهَا بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كُوفِيَّةً بِالشَّامِ فَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ وَلَدَهَا إلَى الْكُوفَةِ لم يَكُنْ لها ذلك لِأَنَّهُ إذَا لم يَقَعْ النِّكَاحُ في بَلَدِهَا لم تُوجَدْ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْمُقَامِ في بَلَدِهَا فلم يَكُنْ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ فيه فلم يَكُنْ رَاضِيًا بِضَرَرِ التَّفْرِيقِ وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ الْوَلَدَ إلَى بَلَدٍ ليس ذلك بِبَلَدِهَا وَلَكِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ فيه كما إذَا تَزَوَّجَ كُوفِيَّةً بِالشَّامِ فَنَقَلهَا إلَى الْبَصْرَةِ فَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْتَقِلَ بِأَوْلَادِهَا إلَى الشَّامِ ليس لها ذلك كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّ ذلك الْبَلَدَ الذي وَقَعَ فيها ‏[‏فيه‏]‏ النِّكَاحُ ليس بِبَلَدِهَا وَلَا بَلَدِ الزَّوْجِ بَلْ هو دَارُ غُرْبَةٍ لها كَالْبَلَدِ الذي فيه الزَّوْجُ فلم يَكُنْ النِّكَاحُ فيه دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُقَامِ فيه فلم يَكُنْ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ الذي هو من ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فيه فلم يَكُنْ رَاضِيًا بِضَرَرِ التَّفْرِيقِ فَاعْتَبَرَ في الْأَصْلِ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ الذي تُرِيدُ أَنْ تَنْقُلَ إلَيْهِ الْوَلَدَ بَلَدَهَا وَالثَّانِي وُقُوعُ النِّكَاحِ فيه فما لم يُوجَدَا لَا يَثْبُتُ لها وِلَايَةُ النَّقْلِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ لها ذلك وَاعْتَبَرَ مَكَانَ الْعَقْدِ فقد ‏[‏فقط‏]‏‏.‏

وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فقال وَإِنَّمَا أَنْظُرُ في هذا إلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ أَيْنَ وَقَعَتْ وَهَكَذَا اعْتَبَرَ الطَّحَاوِيُّ وَالْخَصَّافُ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ في الْجَامِعِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَإِنْ أَجْمَلَ الْمَسْأَلَةَ في الْجَامِعِ فَقَدْ فصلهَا في الْأَصْلِ على الْوَجْهِ الذي وَصَفْنَا وَالْمُجْمَلُ يُحْمَلُ على الْمُفَسَّرِ وقد يَكُونُ الْمُفَسَّرُ بَيَانًا لِلْمُجْمَلِ كَالنَّصِّ الْمُجْمَلِ من الْكتاب وَالسُّنَّةِ إذَا لَحِقَ بِهِ التَّفْسِيرُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا من الْأَصْلِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ‏.‏

هذا إذَا كانت الْمَسَافَةُ بين الْبَلَدَيْنِ بَعِيدَةً فَإِنْ كانت قَرِيبَةً بِحَيْثُ يَقْدِرُ الْأَبُ أَنْ يَزُورَ وَلَدَهُ وَيَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ قبل اللَّيْلِ فَلَهَا ذلك لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الْأَبَ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِالنَّقْلِ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ إلَى أَطْرَافِ الْبَلَدِ وَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَالْحُكْمُ في السَّوَادِ كَالْحُكْمِ في الْمِصْرِ في جَمِيعِ الْفُصُولِ إلَّا في فصل وَاحِدٍ وَبَيَانُهُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا وَقَعَ في الرُّسْتَاقِ فَأَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْقُلَ الصَّبِيَّ إلَى قَرْيَتِهَا فَإِنْ كان أَصْلُ النِّكَاحِ وَقَعَ فيها فَلَهَا ذلك كما في الْمِصْرِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان وَقَعَ في غَيْرِهَا فَلَيْسَ لها نَقْلُهُ إلَى قَرْيَتِهَا وَلَا إلَى الْقَرْيَةِ التي وَقَعَ فيها النِّكَاحُ إذَا كانت بَعِيدَةً لِمَا ذَكَرْنَا في الْمِصْرِ وَإِنْ كانت قَرِيبَةً على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا فَلَهَا ذلك كما في الْمِصْرِ وَإِنْ كان الْأَبُ مُتَوَطِّنًا في الْمِصْرِ فَأَرَادَتْ نَقْلَ الْوَلَدِ إلَى الْقَرْيَةِ فَإِنْ كان تَزَوَّجَهَا فيها وَهِيَ قَرْيَتُهَا فَلَهَا ذلك وَإِنْ كانت بَعِيدَةً عن الْمِصْرِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمِصْرِ وَإِنْ لم تَكُنْ تِلْكَ قَرْيَتَهَا فَإِنْ كانت قَرْيَتَهُ وَوَقَعَ فيها أَصْلُ النِّكَاحِ فَلَهَا ذلك كما في الْمِصْرِ وَإِنْ كان لم يَقَعْ النِّكَاحُ فيها فَلَيْسَ لها ذلك‏.‏

وَإِنْ كانت قَرِيبَةً من الْمِصْرِ بِخِلَافِ الْمِصْرَيْنِ لِأَنَّ أَخْلَاقَ أَهْلِ السَّوَادِ لَا تَكُونُ مِثْلَ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْمِصْرِ بَلْ تَكُونُ أَجْفَى فَيَتَخَلَّقُ الصَّبِيُّ بِأَخْلَاقِهِمْ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ولم يُوجَدْ من الْأَبِ دَلِيلُ الرِّضَا بهذا الضَّرَرِ إذْ لم يَقَعْ أَصْلُ النِّكَاحِ في الْقَرْيَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏ وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْقُلَ وَلَدَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كان قد تَزَوَّجَهَا هُنَاكَ وَكَانَتْ حَرْبِيَّةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا لِأَنَّ في ذلك إضْرَارًا بِالصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ الْكَفَرَةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَإِنْ كان كِلَاهُمَا حَرْبِيَّيْنِ فَلَهَا ذلك لِأَنَّ الصَّبِيَّ تَبَعٌ لَهُمَا وَهُمَا من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏ وهو الْمُوَفِّقُ‏.‏

كتاب الْإِعْتَاقِ

الْكَلَامُ في هذا الْكتاب في الْأَصْلِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِعْتَاقِ وفي بَيَانِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْإِعْتَاقِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ وفي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ الْإِعْتَاقُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِعْتَاقُ في الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُبَاحٌ وَمَحْظُورٌ أَمَّا الْوَاجِبُ فَالْإِعْتَاقُ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالْإِفْطَارِ إلَّا أَنَّهُ في باب الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَاجِبٌ على التَّعْيِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عليه وفي الْيَمِينِ وَاجِبٌ على التَّخْيِيرِ قال اللَّهُ تَعَالَى في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ وفي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ‏:‏ ‏{‏أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ وأنه أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرِّقَابِ‏}‏ وَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ‏}‏ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ‏}‏ وَنَحْوِ ذلك‏.‏

وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ أَعْتِقْ رَقَبَةً وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ الْإِعْتَاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى من غَيْرِ إيجَابٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَدَبَ إلَى ذلك لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا في الدُّنْيَا أَعْتَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ منه عُضْوًا منه من النَّارِ‏.‏

وَعَنْ وَاثِلَةَ بن الْأَسْقَعِ قال أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في صَاحِبٍ لنا قد أَوْجَبَ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَعْتِقُوا عنه يُعْتِقْ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ منه عُضْوًا منه من النَّارِ وَعَنْ أبي نَجِيحٍ السُّلَمِيُّ قال كنا مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالطَّائِفِ فَسَمِعْته يقول من رَمَى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُ دَرَجَةٌ في الْجَنَّةِ من ‏[‏ومن‏]‏ شَابَ شَيْبَةً في الْإِسْلَامِ كانت له نُورًا يوم الْقِيَامَةِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا كان بِهِ وِقَاءُ كل عَظْمٍ من عِظَامِ محررة من النَّارِ وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كان بها وِقَاءُ كل عَظْمٍ من عِظَامِ مُحَرَّرَتِهَا من النَّارِ‏.‏

وَعَنْ الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ قال جاء أَعْرَابِيٌّ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فقال أَوَ لَيْسَا وَاحِدًا فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ في إفْكَاكِهَا» وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ‏:‏ «أَنْ تُعِينَ في ثَمَنِهَا»‏.‏

وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ الْإِعْتَاقُ من غَيْرِ نِيَّةٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فيه وَهِيَ تَخْيِيرُ الْعَاقِلِ بين تَحْصِيلِ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ شَرْعًا وَأَمَّا الْمَحْظُورُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ وَيَقَعُ الْعِتْقُ لِوُجُودِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ وَشَرْطِهِ وَقَوْلُهُ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ لِبَيَانِ الْغَرَضِ وَنُقَسِّمُهُ أَيْضًا أَقْسَامًا أُخَرَ نَذْكُرُهَا في مَوَاضِعِهَا إن شاء الله تعالى‏.‏

فصل رُكْن الْإِعْتَاقِ

وَأَمَّا رُكْنُ الْإِعْتَاقِ فَهُوَ اللَّفْظُ الذي جُعِلَ دَلَالَةً على الْعِتْقِ في الْجُمْلَةِ أو ما يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَيُحْتَاجُ فيه إلَى بَيَانِ الْأَلْفَاظِ التي يَثْبُتُ بها الْعِتْقُ في الْجُمْلَةِ إمَّا مع النِّيَّةِ أو بِدُونِ النِّيَّةِ وَإِلَى بَيَانِ ما لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ من الْأَلْفَاظِ رَأْسًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَلْفَاظُ التي يَثْبُتُ بها الْعِتْقُ في الْجُمْلَةِ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ صَرِيحٌ وَمُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ وَكِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ اللَّفْظُ الْمُشْتَقُّ من الْعِتْقِ أو الْحُرِّيَّةِ أو الْوَلَاءِ نَحْوُ قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك أو حَرَّرْتُك أو أنت عَتِيقٌ أو مُعْتَقٌ أو أنت مَوْلَايَ لِأَنَّ الصَّرِيحَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هو ظَاهِرُ الْمَعْنَى مَكْشُوفُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمَّا لَفْظُ الْعِتْقِ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الْعِتْقِ فَكَانَ ظَاهِرَ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ فَكَانَ صَرِيحًا فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَصَرِيحِ الطَّلَاقِ إذْ النِّيَّةُ لِتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلِ وَأَمَّا لَفْظُ الْوَلَاءِ فَالْمَوْلَى وَإِنْ كان من الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ في الْأَصْلِ لِوُقُوعِهِ على مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَغَيْرِهِمَا فإنه يَقَعُ على النَّاصِرِ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ اللَّهَ مولى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مولى لهم‏}‏ وَيَقَعُ على ابْنِ الْعَمِّ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عن نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ من وَرَائِي‏}‏ وَيَقَعُ على الْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ لَكِنْ هَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى للناصر ‏[‏الناصر‏]‏ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِعَبْدِهِ وَلَا ابْنَ الْعَمِّ إذَا كان الْعَبْدُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَلَا الْمُعْتَقِ إذْ الْعَبْدُ لَا يُعْتِقُ مَوْلَاهُ فَتَعَيَّنَ الْمُعْتِقُ مُرَادًا بِهِ وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ يَتَعَيَّنُ بَعْضَ الْوُجُوهِ الذي يَحْتَمِلُهُ مُرَادُهُ بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ فَكَانَ صَرِيحًا في الْعِتْقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَقَوْلِهِ أنت حُرٌّ أو عَتِيقٌ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ هذه الْأَلْفَاظَ بِصِيغَةِ النِّدَاءِ بِأَنْ قال يا حُرُّ يا عَتِيقُ يا مُعْتَقُ لِأَنَّهُ نَادَاهُ بِمَا هو صَرِيحٌ في الدَّلَالَةِ على الْعِتْقِ لِكَوْنِ اللَّفْظِ مَوْضُوعًا لعتق ‏[‏للعتق‏]‏ وَالْحُرِّيَّةِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى بِالْمَوْضُوعَاتِ فَيَثْبُتُ الْعِتْقُ من غَيْرِ نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ أنت حُرٌّ أو عَتِيقٌ أو مُعْتَقٌ‏.‏

وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لو كان اسْمُ الْعَبْدِ حُرًّا وَعُرِفَ بِذَلِكَ الِاسْمِ فقال له يا حُرُّ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ إذَا كان مُسَمًّى بِذَلِكَ الِاسْمِ مَعْرُوفًا بِهِ لِنِدَائِهِ يُحْمَلُ على الِاسْمِ الْعَلَمِ لَا على الصِّفَةِ فَلَا يَعْتِقُ وَكَذَا إذَا قال له يا مَوْلَايَ يَعْتِقُ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ لَا يَعْتِقُ من غَيْرِ نِيَّةٍ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ يا مَوْلَايَ يَحْتَمِلُ للتعظيم ‏[‏التعظيم‏]‏ وَيَحْتَمِلُ الْعِتْقَ فَلَا يُحْمَلُ على التَّحْقِيقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَقَوْلِهِ يا سَيِّدِي وَيَا مَالِكِي وَلَنَا أَنَّ النِّدَاءَ لِلْعَبْدِ بِاسْمِ الْمَوْلَى لَا يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ لِلْعَبْدِ وَإِكْرَامُهُ عَادَةً وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْإِعْتَاقُ فَيُحْمَلُ عليه كَأَنْ قال أنت مَوْلَايَ وَلَوْ قال ذلك يَعْتِقُ عليه كَذَا هذا بِخِلَافِ قَوْلِهِ يا سَيِّدِي وَيَا مَالِكِي لِأَنَّ هذا قد يُذْكَرُ على وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ من غَيْرِ قَرِينَةٍ وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ لِهَذَا فقال لِأَنَّا إنَّمَا أَعْتَقْنَاهُ في قَوْلِهِ يا مَوْلَايَ لِأَجْلِ الْوَلَاءِ لَا لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَمَعْنَاهُ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

وَلَوْ قال في شَيْءٍ من هذه الْأَلْفَاظِ من قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك أو نَحْوِهِ عَنَيْت بِهِ الْخَبَرَ كَذِبًا لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِعُدُولِهِ عن الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في إنْشَاءِ الْعِتْقِ في عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ كما يُسْتَعْمَلُ في الأخبار فإن الْعَرَبَ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ كَانُوا يُعْتِقُونَ عَبِيدَهُمْ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وفي الْحَمْلِ على الْخَبَرِ حَمْلٌ على الْكَذِبِ وَظَاهِرُ حَالِ الْعَاقِلِ بِخِلَافِهِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ كما لو قال لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتُك وَنَوَى بِهِ الْإِخْبَارَ كَذِبًا لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ وَإِنْ كان إرَادَتُهُ الْخَبَرَ خِلَافَ الظَّاهِرِ‏.‏

وَلَوْ قال عَنَيْت بِهِ أَنَّهُ كان خَبَرًا فَإِنْ كان مُوَكَّدًا لَا يُصَدَّقُ أَصْلًا لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ وَإِنْ كان إنشاءا ‏[‏إنشاء‏]‏ لَا يُصَدَّقُ قضاءا ‏[‏قضاء‏]‏ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَةُ الْإِنْشَاءِ من هذه الْأَلْفَاظِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْعُدُولِ عن الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عن الْمَاضِي وَلَوْ قال أنت حُرٌّ من عَمَلِ كَذَا أو أنت حُرٌّ الْيَوْمَ من هذا الْعَمَلِ عَتَقَ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَزْمَانِ لَا يَتَجَزَّأُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَعْتِقَ الْيَوْمَ وَيُسْتَرَقَّ غَدًا أو يَعْتِقَ في عَمَلٍ وَيُرَقَّ في عَمَلٍ فَكَانَ الْإِعْتَاقُ في عَمَلٍ دُونَ عَمَلٍ وفي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ إعْتَاقًا من الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وفي الْأَزْمَانِ بِأَسْرِهَا فإذا نَوَى بَعْضَ الْأَعْمَالِ وَالْأَزْمَانِ فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَكَذَا إذَا قال أنت مَوْلَايَ وقال عَنَيْت بِهِ الْمُوَالَاةَ في الدِّينِ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ إذْ هو يُسْتَعْمَلُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ ظَاهِرًا وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ ما نَوَى وَلَوْ قال ما أنت إلَّا حُرٌّ عَتَقَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ما أنت إلَّا حُرٌّ آكَدُ من قَوْلِهِ أنت حُرٌّ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ بَعْدَ النَّفْيِ كَقَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ‏.‏

وَلَوْ قال أنت حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَتَقَ لِأَنَّ اللَّامَ في قَوْلِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَامُ الْغَرَضِ فَقَدْ نَجَّزَ الْحُرِّيَّةَ وَبَيَّنَ أَنَّ غَرَضَهُ من التَّحْرِيرِ وَجْهُ اللَّهِ عز وجل وَكَذَا لو قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ عَتَقَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِقَوْلِهِ أنت حُرٌّ وَبَيَّنَ غَرَضَهُ الْفَاسِدَ من الْإِعْتَاقِ فَلَا يَقْدَحُ في الْعِتْقِ وَلَوْ دعى ‏[‏دعا‏]‏ عَبْدَهُ سَالِمًا فقال يا سَالِمُ فَأَجَابَهُ مَرْزُوقٌ فقال أنت حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ له عَتَقَ الذي أَجَابَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أنت حُرٌّ خِطَابٌ وَالْمُتَكَلِّمُ أَوْلَى بِصَرْفِ الْخِطَابِ إلَيْهِ من السَّاكِتِ وَلَوْ قال عَنَيْت سَالِمًا عَتَقَا في الْقَضَاءِ أَمَّا مَرْزُوقٌ فَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ مَصْرُوفَةٌ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُصَدَّقُ في أَنَّهُ ما عَنَاهُ وَأَمَّا سَالِمٌ فَبِإِقْرَارِهِ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَعْتِقُ الذي عَنَاهُ خَاصَّةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَطَّلِعُ على سِرِّهِ وَلَوْ قال يا سَالِمُ أنت حُرٌّ فإذا هو عَبْدٌ آخَرُ له أو لِغَيْرِهِ عَتَقَ سَالِمُ لِأَنَّهُ لَا مُخَاطَبَ هَهُنَا إلَّا سَالِمٌ فَيُصْرَفُ قَوْلُهُ أنت حُرٌّ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

وَأَمَّا الذي هو مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ وَهَبْت لَك نَفْسَك أو وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أو بِعْت نَفْسَك مِنْك وَيَعْتِقُ سَوَاءٌ قَبِلَ أو لم يَقْبَلْ نَوَى أو لم يَنْوِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ من الْوَاهِبِ أو الْبَائِعِ إزَالَةُ الْمِلْكِ من الْمَوْهُوبِ أو الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْقَبُولِ من الْمَوْهُوبِ له وَالْمُشْتَرِي لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُمَا وَهَهُنَا لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ في نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَمْلُوكًا لِنَفْسِهِ فَتَبْقَى الْهِبَةُ وَالْبَيْعُ إزَالَةُ الْمِلْكِ عن الرَّقِيقِ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا مَعْنَى الْإِعْتَاقِ وَلِهَذَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّفْظَ صَرِيحٌ في الدَّلَالَةِ على زَوَالِ الْمِلْكِ عن الْمَوْهُوبِ وَالْمَبِيعِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وقد قال أبو حَنِيفَةَ إذَا قال لِعَبْدِهِ وَهَبْت لَك نَفْسَك وقال أَرَدْت وَهَبْت له عِتْقَهُ أَيْ لَا أَعْتِقُهُ لم يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْهِبَةَ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عن الْمَوْهُوبِ وَهِبَةُ الْعِتْقِ اسْتِبْقَاءُ الْمِلْكِ على الْمَوْهُوبِ فَقَدْ عَدَلَ عن ظَاهِرِ الْكَلَامِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِعَبْدِهِ أنت مولى فُلَانٍ أو عقيق ‏[‏عتيق‏]‏ فُلَانٍ أَنَّهُ يَعْتِقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُعْتَقُ فُلَانٍ وَلَا يَكُونُ مُعْتَقَ فُلَانٍ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَهُ فَإِنْ أَعْتَقَك فُلَانٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَعْتَقَك فُلَانٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ فُلَانًا أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِيك وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ قال لَك لِلْحَالِ أنت حُرٌّ وَلَا مِلْكَ له فيه فَلَا يَعْتِقُ بِالشَّكِّ وَالله أعلم‏.‏

وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ أو أُمَّهُ أو ابْنَهُ عَتَقَ عليه نَوَى أو لم يَنْوِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ شِرَاءَهُ جُعِلَ اعتاقا شَرْعًا حتى تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ نَاوِيًا عن الْكَفَّارَةِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ من يَمْلِكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه بِالشِّرَاءِ أو بِقَبُولِ الْهِبَةِ أو الصَّدَقَةِ أو الْوَصِيَّةِ أو بِالْإِرْثِ يَعْتِقُ عليه وقال مَالِكٌ لَا يَعْتِقُ ما لم يُعْتِقْهُ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَعْتِقُ بِالْمِلْكِ إلَّا من له ولاد ‏[‏أولاد‏]‏ فَأَمَّا من لَا ولاد ‏[‏أولاد‏]‏ له فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ أَمَّا مَالِكٌ فإنه احْتَجَّ بِمَا رَوَى أبو دَاوُد في سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عن أبي هُرَيْرَةَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ حَقَّقَ الْإِعْتَاقَ عَقِيبَ الشِّرَاءِ وَلَوْ كان الشِّرَاءُ نَفْسُهُ إعْتَاقًا لم يَتَحَقَّقْ الْإِعْتَاقُ عَقِيبَهُ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمُعْتَقِ لَا يُتَصَوَّرُ فَدَلَّ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ ليس بِإِعْتَاقٍ لأن الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ إثْبَاتًا وَإِزَالَةً‏.‏

وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فَهُوَ حُرٌّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قال جاء رَجُلٌ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي دَخَلْت السُّوقَ فَوَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فَاشْتَرَيْته وأنا أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهُ فقال له إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد أَعْتَقَهُ وَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ على مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى قَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في حديث أبي هُرَيْرَةَ فَتُعْتِقَهُ أَيْ تُعْتِقَهُ بِالشِّرَاءِ يُحْمَلُ على هذا عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ الشِّرَاءُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ فَنَعَمْ وَلَكِنَّ الْمُمْتَنَعَ إثْبَاتُ حُكْمٍ وَضِدِّهِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا في زَمَانَيْنِ فَلَا لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ في الْحَقِيقَةِ دَلَائِلُ وَأَعْلَامٌ على الْمَحْكُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الشِّرَاءِ السَّابِقِ عَلَمًا على ثُبُوتِ الْمِلْكِ في الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ عَلَمًا على ثُبُوتِ الْعِتْقِ في الزَّمَانِ الثَّانِي إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَأَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَمَبْنِيٌّ على أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ فِيمَا سِوَى الْوِلَادِ وَهِيَ قَرَابَةُ الْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ حَرَامَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَحْرُمُ قَطْعُهَا وَعَلَى هذا يبني وُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ في هذه الْقَرَابَةِ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ وَيَجِبُ النَّفَقَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا له وَلَا خِلَافَ في أَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ حَرَامُ الْقَطْعِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أَنَّ الْقَرَابَةَ التي لَا تُحَرِّمُ النِّكَاحَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ غَيْرُ مُحَرَّمَةِ الْقَطْعِ فَالشَّافِعِيُّ يُلْحِقُ هذه الْقَرَابَةَ بِقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ وَنَحْنُ نُلْحِقُهَا بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ لِكَوْنِ الْعِتْقِ صِلَةً وَكَوْنِ الْقَرَابَةِ مُسْتَدْعِيَةً لِلصِّلَةِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْقَرِيبِ وَالْعِتْقُ من أَعْلَى الصِّلَاتِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَعْلَى الْقَرَابَاتِ وَهِيَ قَرَابَةُ الْوِلَادِ لِمَا فيها من الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَلَا يُوجَدُ ذلك في هذه الْقَرَابَةِ فَلَا يُلْحَقُ بها بَلْ يُلْحَقُ بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ وَهِيَ قَرَابَةُ بَنِي الْأَعْمَامِ وَلِهَذَا أُلْحِقَ بها في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ وَهِيَ جَرَيَانُ الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَالطَّرَفِ وَقَبُولُ الشَّهَادَةِ وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ وَنِكَاحُ الْحَلِيلَةِ وَعَدَمُ التَّكَاتُبِ وَلَنَا أَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ إنَّمَا أَوْجَبَتْ الْعِتْقَ عِنْدَ الْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةَ الْقَطْعِ وَإِبْقَاءُ الْمِلْكِ في الْقَرِيبِ يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ لِأَنَّ الْمِلْكَ نَفْسَهُ من باب الذُّلِّ وَالْهَوَانِ فَيُورِثُ وَحْشَةً وأنها تُوجِبُ التَّبَاعُدَ بين الْقَرِيبِينَ وهو تَفْسِيرُ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَشَرْعُ السَّبَبِ الْمُفْضِي إلَى الْقَطْعِ مع تَحْرِيمِ الْقَطْعِ مُتَنَاقِضٌ فَلَا يَبْقَى الْمِلْكُ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ فَلَا يَبْقَى الرِّقُّ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لم يُشْرَعْ بَقَاؤُهُ في الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ إلَّا لِأَجْلِ الْمِلْكِ الْمُحْتَرَمِ لِلْمَالِكِ الْمَعْصُومِ وإذا زَالَ الرِّقُّ ثَبَتَ الْعِتْقُ ضَرُورَةً وَالْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ لِحُرْمَةِ قَطْعِ الرَّحِمِ عَامَّةٌ أو مُطْلَقَةٌ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ‏}‏ مَعْنَاهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تَسَاءَلُونَ بِهِ فَلَا تَعْصُوهُ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ فَلَا تَقْطَعُوهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وقد رُوِيَ في الْأَخْبَارِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال صِلُوا الْأَرْحَامَ فإنه أَبْقَى لَكُمْ في الدُّنْيَا وَخَيْرٌ لَكُمْ في الْآخِرَةِ وَالْأَمْرُ بِالْوَصْلِ يَكُونُ نَهْيًا عن الْقَطْعِ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ‏.‏

وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال الرَّحِمُ شُجْنَةٌ من اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ يا رَبِّ هذا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ قُطِعْتُ ولم أُوصَلْ فيقول اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَا يَكْفِيك أَنِّي شَقَقْت لَك اسْمًا من اسْمِي أنا الرَّحْمَنُ وَأَنْتِ الرَّحِمُ فَمَنْ وَصَلَك وَصَلْته وَمِنْ قَطَعَك بَتَتُّهُ وَمِثْلُ هذا الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ فَدَلَّ أَنَّ قَطْعَ الرَّحِمِ حَرَامٌ وَالرَّحِمُ هو الْقَرَابَةُ سُمِّيَتْ الْقَرَابَةُ رَحِمًا اما بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّحِمَ مُشْتَقٌّ من الرَّحْمَةِ كما جاء في الحديث وَالْقَرَابَةُ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ على الْقَرِيبِ طَبْعًا وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ من النِّسَاءِ الْمُسَمَّى بِالرَّحِمِ مَحَلُّ السَّبَبِ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُودُ الْقَرَابَاتِ فَكَانَ كُلُّ قَرَابَةٍ أو مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ مُحَرَّمَةَ الْقَطْعِ بِظَاهِرِ النُّصُوصِ إلَّا ما خُصَّ أو قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ثُمَّ نُخْرِجُ الْأَحْكَامَ أَمَّا جَرَيَانُ الْقِصَاصِ فَلَا يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْفِعْلِ وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ فَكَانَ الْأَخُ الْقَاتِلُ أو الْقَاطِعُ هو قَاطَعَ الرَّحِمِ فَكَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ أو قَطَعَ طَرَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَكَذَا الْحَبْسُ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمَطْلِ الذي هو جِنَايَةٌ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا الإجارة فَهِيَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وهو تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِالْمَالِ وأنه حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يُفْضِي إلَى الْقَطْعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَبِ ابْنَهُ في الْخِدْمَةِ التي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْأَبُ لَا لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَلْ لِأَنَّ ذلك يُسْتَحَقُّ على الِابْنِ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الأجر في مُقَابَلَتِهِ فَلَا يَدْخُلُ في الْعَقْدِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الِابْنُ أَبَاهُ يَصِحُّ وَلَكِنْ يُفْسَخُ احْتِرَامًا لِلْأَبِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ لِلْأَبِ زِيَادَةَ احْتِرَامٍ شَرْعًا يَظْهَرُ في حَقِّ هذا وفي حَقِّ الْقِصَاصِ وَالْحَبْسِ وَلَا كَلَامَ فيه وَأَمَّا نِكَاحُ الْحَلِيلَةِ فإنه وَإِنْ كان فيه نَوْعُ غَضَاضَةٍ لَكِنَّ هذا النَّوْعَ من الْغَضَاضَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ في تَحْرِيمِ الْقَطْعِ فَلِأَنَّ الْجَمْعَ بين الاختين حُرِّمَ لِلصِّيَانَةِ عن قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ يَجُوزُ نِكَاحُ الْأُخْتِ بَعْدَ طَلَاقِ أُخْتِهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَإِنْ كان لَا يَخْلُو عن نَوْعِ غَضَاضَةٍ‏.‏

وَأَمَّا التَّكَاتُبُ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَتَكَاتَبُ الْأَخُ كما في قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ ثُمَّ نَقُولُ عَدَمُ تَكَاتُبِ الْأَخِ لَا يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّكَاتُبِ لِأَنَّهُ من باب الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ وَمِلْكُ الْمُكَاتَبِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ في حَقِّ التَّبَرُّعِ وَالْعِتْقِ فإذا لم يُتَكَاتَبْ عليه لم يَقْدِرْ الْأَخُ على إزَالَةِ الذُّلِّ عنه وهو الْمِلْكُ فَلَا يُفْضِي إلَى الْغَضَاضَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كان ضَرُورِيًّا لم يُشْرَعْ إلَّا في حَقِّ حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ لَكِنَّ حُرِّيَّةَ أبيه وَابْنِهِ في مَعْنَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَسْعَى لِحُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ وَآبَائِهِ مِثْلَ ما يَسْعَى لِحُرِّيَّةِ نَفْسِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

وَسَوَاءٌ كان الْمَالِكُ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بَالِغًا أو صَبِيًّا عَاقِلًا أو مَجْنُونًا يَعْتِقُ عليه إذَا مَلَكَهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فَهُوَ حُرٌّ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ وهو الْحُرِّيَّةُ بِالْمِلْكِ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ من كان من أَهْلِ الْمِلْكِ كان من أَهْلِ هذا الْحُكْمِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ من أَهْلِ الْمِلْكِ فَكَانَا من أَهْلِ هذا الْحُكْمِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ يَعْتِقُ عليه وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا حتى تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ وَالصَّبِيُّ وَإِنْ كان عَاقِلًا فَلَيْسَ من أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ أو لَا يَكُونَ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا قِيلَ إنَّ كَوْنَ شِرَاءِ الْأَبِ إعْتَاقًا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وهو ما رَوَيْنَاهُ من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَالنَّصُّ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وقد قام الدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّبِيَّ ليس بِمُرَادٍ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الاعتاق فَلَا يَكُونُ الشِّرَاءُ من الصَّبِيِّ وَإِنْ كان عَاقِلًا إعْتَاقًا بَلْ يَكُونُ تَمْلِيكًا فَقَطْ فَيَعْتِقُ عليه بِالْمِلْكِ شَرْعًا لِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فَهُوَ حُرٌّ لَا بالاعتاق وَلَوْ مَلَكَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ أو مَنْكُوحَةَ أبيه أو أمة من الرَّضَاعِ لَا يَعْتِقُ عليه‏.‏

وَكَذَا إذَا مَلَكَ ابْنَ الْعَمِّ أو الْعَمَّةِ أو ابْنَتَهَا أو ابْنَ الْخَالِ أو الْخَالَةِ أو بِنْتَيْهِمَا لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ مِلْكُ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَا بُدَّ من وُجُودِهِمَا أَعْنِي الرَّحِمَ الْمَحْرَمَ فَفِي الْأَوَّلِ وحد الْمَحْرَمُ بِلَا رَحِمٍ وفي الثَّانِي وُجِدَ الرَّحِمُ بِلَا مَحْرَمٍ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ‏.‏ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ في ذلك سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمْ في حُرْمَةِ قَطْعِ الرَّحِمِ وَأَهْلِيَّةِ الاعتاق وَأَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ وَوَلَاءُ الْمُعْتَقِ لِمَنْ عَتَقَ عليه لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْ وَقَعَ بِالشِّرَاءِ فَالشِّرَاءُ إعْتَاقٌ وقد قال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنْ وَقَعَ بِالْمِلْكِ شَرْعًا فَالْمِلْكُ لِلْمُعْتَقِ عليه فَكَانَ الْوَلَاءُ له وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً وَهِيَ حُبْلَى من أبيه وَالْأَمَةُ لِغَيْرِ الْأَبِ جَازَ الشِّرَاءُ وَعَتَقَ ما في بَطْنِهَا وَلَا تَعْتِقُ الْأَمَةُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قبل أَنْ تَضَعَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا إذَا وَضَعَتْ أَمَّا جَوَازُ الشِّرَاءِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ شِرَاءَ الْأَخِ جَائِزٌ كَشِرَاءِ الْأَبِ وَسَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَأَمَّا عِتْقُ الْحَمْلِ فَلِأَنَّهُ أَخُوهُ وقد مَلَكَهُ فَيَعْتِقُ عليه وَلَا تَعْتِقُ الْأُمُّ عليه لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عنه لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ بَيْنَهُمَا يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لو مَلَكَهَا أَبُوهُ لَا تَعْتِقُ عليه فَابْنُهُ أَوْلَى وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا مادام الْحَمْلُ قَائِمًا فلان في بَطْنِهَا وَلَدًا حُرًّا وَلِأَنَّ بَيْعَ الْحَامِلِ بِدُونِ الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو بَاعَهَا وَاسْتَثْنَى الْحَمْلَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فإذا كان الْوَلَدُ حُرًّا وَالْحُرُّ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْوَلَدَ وإذا وَضَعَتْ جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّ الْمَانِعَ قد زَالَ وإذا مَلَكَ شِقْصًا من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه عَتَقَ عليه قَدْرُ ما مَلَكَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَعْتِقُ كُلُّهُ كما لو اعتق شِقْصًا من عَبْدٍ له أَجْنَبِيٍّ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَوْ مَلَكَ رَجُلَانِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أَحَدِهِمَا حتى عَتَقَ عليه فَهَذَا لَا يَخْلُو أما إن مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَهُمَا فيه صَنِيعٌ وَإِمَّا إنْ مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَا صَنِيعَ لَهُمَا فيه فَإِنْ مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَهُمَا فيه صُنْعٌ بِأَنْ مَلَكَاهُ بِالشِّرَاءِ أو بِقَبُولِ الْهِبَةِ أو الصَّدَقَةِ أو الْوَصِيَّةِ لَا يَضْمَنُ من عَتَقَ عليه لِشَرِيكِهِ شيئا مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ يَسْعَى له الْعَبْدُ في نَصِيبِهِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الذي عَتَقَ عليه نَصِيبَهُ إنْ كان مُوسِرًا‏.‏

وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدِهِ من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ من عَبْدِهِ أو وَهَبَهُ له حتى عَتَقَ عليه لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَصِيبَ الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ مُوسِرًا كان الْقَرِيبُ أو مُعْسِرًا وَلَكِنْ يَسْعَى الْعَبْدُ في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ ان كان مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا يَسْعَى الْعَبْدُ وَلَوْ قال الرَّجُلُ لِعَبْدٍ ليس بِقَرِيبٍ له إنْ مَلَكْته فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْحَالِفُ وَغَيْرُهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ على هذا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنِّي لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ‏.‏

وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كان بين اثْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ من قَرِيبِ الْعَبْدِ حتى عَتَقَ عليه أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ نَصِيبَ للشريك ‏[‏الشريك‏]‏ السَّاكِتِ إنْ كان مُوسِرًا وَلَا يَضْمَنُ الْبَائِعُ شيئا وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسَائِلِ بِنَاءً على أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لم يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ فَكَانَ شِرَاءُ نَصِيبِهِ إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ وَإِعْتَاقُ نَصِيبِهِ إعْتَاقٌ لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَعْتِقُ كُلُّهُ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وهو مُوسِرٌ وَلَمَّا كان مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ كان شِرَاءُ نَصِيبِهِ إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ خَاصَّةً فلم يَكُنْ إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ وَلَا تَمْلِيكًا لِنَصِيبِهِ أَيْضًا لِأَنَّ ذلك ثَبَتَ لِضَرُورَةِ تَكْمِيلِ الْإِعْتَاقِ لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجْزِئَةِ فإذا كان مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّكْمِيلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمْلِيكِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لَا ضَمَانَ إذَا كان مُعْسِرًا وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ وَالتَّمْلِيكِ لَا يَسْقُطُ بالأعسار وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ على الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ ثَمَّةَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ بِالنَّصِّ نَظَرًا لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ وهو مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ إذْ لم يُوجَدْ منه الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ الْإِعْتَاقِ من الشَّرِيكِ وَلَا بِمُبَاشَرَةِ شَرْطِهِ وَهَهُنَا وُجِدَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمُشْتَرِيَيْنِ رَاضٍ بِشِرَاءِ صَاحِبِهِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ وأن شِرَاءَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ شِرَاءِ صَاحِبِهِ حتى لو أَوْجَبَ الْبَائِعُ لَهُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ لم يَصِحَّ‏.‏

وَكَذَا الْبَائِعُ نِصْفَ عَبْدِهِ من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ رَاضٍ بِشِرَائِهِ وَمَنْ رضي بِالضَّرَرِ لَا يُنْظَرُ له فلم تَكُنْ هذه الْمَوَاضِعُ نَظِيرَ الْمَنْصُوصِ عليه فَبَقِيَ الْحُكْمُ فيها على الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بين اثْنَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ دَلِيلُ الرِّضَا من الشَّرِيكِ السَّاكِتِ بِشِرَاءِ الْقَرِيبِ أَصْلًا حتى يُوجِبَ سُقُوطَ حَقِّهِ في الضَّمَانِ فَكَانَ في مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عليه فَيَلْحَقُ بِهِ ثُمَّ وَجْهُ الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ على طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّ شِرَاءَ نَصِيبِهِ إعْتَاقٌ لِنَصِيبِهِ وَإِفْسَادٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ لَكِنَّ هذا إفْسَادٌ مَرْضِيٌّ بِهِ من جِهَةِ الشَّرِيكِ لِأَنَّهُ رضي بِشِرَاءِ نَفْسِهِ وَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ له في نَصِيبِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك بِدُونِ شِرَاءِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ لَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ إذْ الْبَائِعُ ما رضي إلَّا بِهِ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال بِعْت مِنْكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا ولم يَقْبَلْ الْآخَرُ لم يَصِحَّ الْبَيْعُ فَكَانَ الرِّضَا بِشِرَاءِ نَفْسِهِ رِضًا بِشِرَاءِ صَاحِبِهِ فَكَانَ شِرَاءُ الْقَرِيبِ إفْسَادًا لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ بِرِضَا الشَّرِيكِ فَلَا يُوجِبَ الضَّمَانَ كما إذَا كان الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بين اثْنَيْنِ فقال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَعْتِقْ نَصِيبَك أو رَضِيت بِإِعْتَاقِ نَصِيبِك فَأَعْتَقَ لَا يَضْمَنُ كَذَا هذا فَإِنْ قِيلَ هذه النُّكْتَةُ لَا تَتَمَشَّى في الْهِبَةِ فإن أَحَدَهُمَا إذَا قَبِلَ الْهِبَةَ دُونَ الْآخَرِ يَثْبُتُ له الْمِلْكُ فلم يَكُنْ الرِّضَا بِقَبُولِ الْهِبَةِ في نَصِيبِهِ رِضًا بِقَبُولِ صَاحِبِهِ فلم يَكُنْ هذا إفْسَادًا مَرْضِيًّا بِهِ من جِهَةِ الشَّرِيكِ وَكَذَا لَا تَتَمَشَّى فِيمَا إذَا لم يَعْلَمْ الشَّرِيكُ الأجنبى أَنَّ شَرِيكَهُ قَرِيبُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِهِ لم يَعْلَمْ كَوْنَ شِرَاءِ الشَّرِيكِ إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ فَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ فَلَا يَثْبُتُ رِضَاهُ بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ مُحَالٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا من باب عَكْسِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ أَرَاهُ الْحُكْمَ مع عَدَمِ الْعِلَّةِ‏.‏

وَهَذَا تَفْسِيرُ الْعَكْسِ وَالْعَكْسُ ليس بِشَرْطٍ في الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ عِلَلٌ فَنَحْنُ نَفَيْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ في بَعْضِ الصُّوَرِ بِمَا ذَكَرْنَا وَنُبْقِيهِ في غَيْرِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى ثُمَّ نَقُولُ أَمَّا فصل الْهِبَةِ فَنَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ لم يَكُنْ قَبُولُهُ شَرْطَ صِحَّةِ قَبُولِ الْآخَرِ حتى يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَبُولِ لَكِنَّهُمَا إذَا قَبِلَا جميعا كان قَبُولُهُمَا بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ جَوَابُ إيجَابٍ وَاحِدٍ مِثَالُهُ إذَا قَرَأَ الْمُصَلِّي آيَةً وَاحِدَةً قَصِيرَةً أو طَوِيلَةً على الِاخْتِلَافِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ وَلَوْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ أو أَكْثَرَ يَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِالْكُلِّ وَيُجْعَلُ الْكُلُّ كَآيَةٍ وَاحِدَةٍ كَذَا هذا وَأَمَّا فصل الْعِلْمِ فَتَخْرِيجُهُ على جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو أَنَّ عِنْد أبي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ نَصَّ عليه في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَهُمَا يَجِبُ مع الْعِلْمِ فَمَعَ الْجَهْلِ أَوْلَى‏.‏

وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ سُقُوطَ ضَمَانِ الاتلاف عِنْدَ الْإِذْنِ وَالرِّضَا بِهِ لَا يَقِفُ على الْعِلْمِ فإن من قال لِرَجُلٍ كُلْ هذا الطَّعَامَ وَالْآذِنُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُ نَفْسِهِ فَأَكَلَهُ الرَّجُلُ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عليه وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عليها بَلْ الْمُعْتَبَرُ هو سَبَبُ حُصُولِ الْعِلْمِ وَالطَّرِيقِ الموصول ‏[‏الموصل‏]‏ إلَيْهِ وَيُقَامُ ذلك مَقَامَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ كما يُقَامُ سَبَبُ الْقُدْرَةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ وَطَرِيقُ حُصُولِ الْعِلْمِ هَهُنَا في يَدِهِ وهو السُّؤَالُ وَالْفَحْصُ عن حَقِيقَةِ الْحَالِ فإذا لم يَفْعَلْ فَقَدْ قَصَّرَ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ‏.‏

وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فصل بين الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فقال إنْ كان الْأَجْنَبِيُّ يَعْرِفُ ذلك فإن الْعَبْدَ يَعْتِقُ وَيَسْعَى للأجنبى في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كان لَا يَعْلَمُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نقص ‏[‏نقض‏]‏ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ تَمَّ عليه وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَوَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ مع شَرِكَةِ الْأَبِ عَيْبٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُيُوبِ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ كما في سَائِرِ الْعُيُوبِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ لم يَلْزَمْهُ مع الْعَيْبِ وإذا لم يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ في حَقِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لم يَلْزَمْ في حَقِّ الْآخَرِ فَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ‏.‏

وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لو اشْتَرَى رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَى أَبَ الْعَبْدِ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وهو مُوسِرٌ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ من الْمُشْتَرِي الْأَجْنَبِيِّ ما هو دَلِيلُ الرِّضَا في سُقُوطِ الضَّمَانِ عن الْأَبِ فَلَا يَسْقُطُ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال لو أَنَّ عَبْدًا اشْتَرَى نَفْسَهُ هو وَأَجْنَبِيٌّ من مَوْلَاهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ في حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْعِتْقُ وَالْبَيْعُ في عَقْدٍ وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ منه إعْتَاقٌ على مَالٍ فَلَا يصبح ‏[‏يصح‏]‏ الْبَيْعُ بِخِلَافِ الرَّجُلَيْنِ اشْتَرَيَا ابْنَ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ اجْتَمَعَ الشِّرَاءُ وَالْعِتْقُ في عَقْدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ تَمَلُّكٌ في الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَإِعْتَاقٌ في الزَّمَانِ الثَّانِي وأنه جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال إنْ مَلَكْت من هذا الْعَبْدِ شيئا فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْحَالِفُ وَأَبُوهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَتَقَ على الْأَبِ وَهَذَا على أَصْلِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وقد اجْتَمَعَ العتق ‏[‏للعتق‏]‏ سَبَبَانِ الْقَرَابَةُ وَالْيَمِينُ إلَّا أَنَّ الْقَرَابَةَ سَابِقَةٌ على الْيَمِينِ فإذا مَلَكَاهُ صَارَ كَأَنَّ عِتْقَ الْأَبِ أَسْبَقُ فَيَعْتِقُ النَّصِيبَانِ عليه وَلِهَذَا قال في رَجُلٍ قال إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا أو بَعْضَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ ثُمَّ اشْتَرَيَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِمَا وَنِصْفُ وَلَائِهِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ وهو ابْنٌ لِلَّذِي ادَّعَاهُ لِأَنَّ النَّسَبَ هَهُنَا لم يَسْبِقْ الْيَمِينَ فَيَعْتِقُ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عليه وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِمَا وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ وَإِنْ مَلَكَ اثْنَانِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أَحَدِهِمَا بِسَبَبٍ لَا صُنْعَ لَهُمَا فيه بِأَنْ وَرِثَا عَبْدًا وهو قَرِيبُ أَحَدِهِمَا حتى عَتَقَ عليه لَا يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا وَلَكِنْ يَسْعَى الْعَبْدُ في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْعِتْقَ هَهُنَا ثَبَتَ بِالْمِلْكِ شَرْعًا من غَيْرِ إعْتَاقٍ من جِهَةِ أَحَدٍ من الْعِبَادِ إذْ لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ من الْعِبَادِ في الْإِرْثِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ على الْمَرْءِ يَعْتَمِدُ شَرْعًا صُنْعًا من جِهَتِهِ ولم يُوجَدْ من الْقَرِيبِ فَلَا يَضْمَنُ وَالله الموفق‏.‏

وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ أَلْفَاظُ النَّسَبِ وَذِكْرُهَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ على وَجْهِ الصِّفَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ على سَبِيلِ الْفِدَاءِ فَإِنْ ذَكَرَهَا على طَرِيقِ الصِّفَةِ بِأَنْ قال لِمَمْلُوكِهِ هذا ابْنِي فَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان يَصْلُحُ ابْنًا له بِأَنْ كان يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَإِمَّا أن كان لَا يَصْلُحُ وَلَا يَخْلُو إمَّا أن كان مَجْهُولَ النَّسَبِ أو مَعْرُوفَ النَّسَبِ من الْغَيْرِ فَإِنْ كان يَصْلُحُ ابْنًا له فَإِنْ كان مَجْهُولَ النَّسَبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِتْقُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان مَعْرُوفَ النَّسَبِ من الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنْ يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ

وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِتْقَ بِنَاءٌ على النَّسَبِ فَإِنْ ثَبُتَ النَّسَبُ ثَبُتَ الْعِتْقُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ كان لَا يَصْلُحُ ابْنًا له فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ وَهَلْ يَعْتِقُ قال أبو حَنِيفَةَ يَعْتِقُ سَوَاءٌ كان مَجْهُولَ النَّسَبِ أو مَعْرُوفَ النَّسَبِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَعْتِقُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ على تَصَوُّرِ النَّسَبِ وَاحْتِمَالِ ثُبُوتِهِ فَإِنْ تُصُوِّرَ ثُبُوتُهُ ثَبَتَ الْعِتْقُ وَإِلَّا فَلَا وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ لَا يَقِفُ على ثُبُوتِ النَّسَبِ وَلَا على قصور ‏[‏تصور‏]‏ ثُبُوتِهِ وَكَذَلِكَ لو قال لِمَمْلُوكَتِهِ هذه بِنْتِي فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الِابْنِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْعِتْقَ لو ثَبَتَ لَا يَخْلُو إمَّا أن ثَبَتَ ابْتِدَاءً أو بِنَاءً على ثُبُوتِ النَّسَبِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ الاعتاق ابْتِدَاءً وَلَا سَبِيلَ لِلثَّانِي أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلِأَنَّ النَّسَبَ لم يَثْبُتْ في الْمَسْأَلَتَيْنِ جميعا فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِنَاءً عليه وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ وفي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ النَّسَبِ منه حَقِيقَةً بِالزِّنَا وَالِاشْتِهَارِ من غَيْرِهِ بِنَاءً على النَّسَبِ الظَّاهِرِ فَيَعْتِقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ الْمُتَدَيِّنِ يُحْمَلُ على الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ ما أَمْكَنَ لِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَدِينِهِ دَلَالَةً وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ هذا الْكَلَامِ من وَجْهَيْنِ الْكِنَايَةُ وَالْمَجَازُ أَمَّا الْكِنَايَةُ فَلِوُجُودِ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ في اللُّغَةِ وهو الْمُلَازَمَةُ بين الشَّيْئَيْنِ أو الْمُجَاوَرَةُ بَيْنَهُمَا غَالِبًا على وَجْهٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقُ الْوُجُودِ بِهِ أو عِنْدَهُ أو تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ وَتَكُونُ الْكِنَايَةُ كَالتَّابِعِ للمكني والمكني هو الْمَقْصُودُ فَيُتْرَكُ اسْمُ الْأَصْلِ صَرِيحًا وَيُكَنَّى عنه بِاسْمِ الْمُلَازِمِ إيَّاهُ التَّابِعِ له كما في قَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ‏}‏ وَالْغَائِطُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْخَالِي الْمُطْمَئِنِّ من الْأَرْضِ كَنَّى بِهِ عن الْحَدَثِ لِمُلَازَمَةٍ بين هذا الْمَكَانِ وَبَيْنَ الْحَدَثِ غَالِبًا وَعَادَةً إذْ الْعَادَةُ أَنَّ الْحَدَثَ يُوجَدُ في مِثْلِ هذا الْمَكَانِ تَسَتُّرًا عن الناس وَكَذَا الِاسْتِنْجَاءُ وَالِاسْتِجْمَارُ كِنَايَةٌ عن تَطْهِيرِ مَوْضِعِ الْحَدَثِ إذْ الِاسْتِنْجَاءُ طَلَبُ النَّجْوِ وَالِاسْتِجْمَارُ طَلَبُ الْجِمَارِ‏.‏

وَكَذَا الْعَرَبُ تَقُولُ ما زلنا نَطَأُ السَّمَاءَ حتى أَتَيْنَاكُمْ أَيْ نَطَأُ الْمَطَرَ إذْ الْمَطَرُ يَنْزِلُ من السَّمَاءِ وَنَحْوِ ذلك من مَوَاضِعِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْبُنُوَّةُ في الْمِلْكِ مُلَازِمَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ فَجَازَ أَنْ يكنى بِقَوْلِهِ هذا ابْنِي عن قَوْلِهِ هذا مُعْتَقِي وَذِكْرُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ في الْكَلَامِ سَوَاءٌ وَلَوْ صَرَّحَ فقال هذا مُعْتَقِي عَتَقَ فَكَذَا إذَا كَنَّى بِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْمَجَازُ فَلِأَنَّ من طُرُقِهِ الْمُشَابَهَةَ بين الذَّاتَيْنِ في الْمَعْنَى الْمُلَازِمِ الْمَشْهُورِ في مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ فَيُطْلَقُ اسْمُ الْمُسْتَعَارِ عنه على الْمُسْتَعَارِ له لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الذي هو ظَاهِرٌ في الْمُسْتَعَارِ عنه خَفِيٌّ في الْمُسْتَعَارِ له كما في الْأَسَدِ مع الشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ مع الْبَلِيدِ وَنَحْوِ ذلك وقد وُجِدَ هذا الطَّرِيقُ هَهُنَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الِابْنَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَخْلُوقِ من مَاءِ الذَّكَرِ والانثى وَفِيهِ مَعْنًى ظَاهِرٌ لَازِمٌ وهو كَوْنُهُ مُنْعَمًا عليه من جِهَةِ الْأَبِ بالاحياء لِاكْتِسَابِ سَبَبِ وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْمُعْتَقُ مُنْعَمٌ عليه من جِهَةِ الْمُعْتِقِ إذْ الاعتاق انعام على الْمُعْتَقِ وقال اللَّهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه‏}‏ قِيلَ في التَّفْسِيرِ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عليه بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْتَ عليه بالاعتاق فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ في هذا الْمَعْنَى وأنه مَعْنًى لَازِمٌ مَشْهُورٌ فَيَجُوزُ اطلاق اسْمِ الِابْنِ على الْمُعْتَقِ مَجَازًا لِإِظْهَارِ نِعْمَةِ الْعِتْقِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ على الشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ على الْبَلِيدِ وَالثَّانِي أَنَّ بين مُعْتِقِ الرَّجُلِ وَبَيْنَ ابْنِهِ الدَّاخِلِ في مِلْكِهِ مُشَابَهَةً في مَعْنَى الْحُرِّيَّةِ وهو مَعْنًى لَازِمٌ لِلِابْنِ الدَّاخِلِ في مِلْكِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عنه وأنه مَشْهُورٌ فيه فَوُجِدَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ أن الْعِتْقَ إمَّا إنْ ثَبَتَ ابْتِدَاءً أو بِنَاءً على النَّسَبِ لِأَنَّا نَقُولُ ابْتِدَاءً لَكِنْ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وهو الْكِنَايَةُ أو الْمَجَازُ على ما بَيَّنَّا وَلَا يَلْزَمُ على أبي حَنِيفَةَ ما إذَا قال لِامْرَأَتِهِ هذه بِنْتِي وَمِثْلُهُ لَا يَلِدُ مِثْلَهَا أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ اقراره بِكَوْنِهَا بِنْتًا له نفي النِّكَاحَ لِأَجْلِ النَّسَبِ وَهَهُنَا لم يَثْبُتْ النَّسَبُ فَلَا يَنْتَفِي النِّكَاحُ فَأَمَّا ثُبُوتُ الْعِتْقِ فَلَيْسَ يَقِفُ على ثُبُوتِ النَّسَبِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّهُ لو قال لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ من الْغَيْرِ هذه بِنْتِي لم تَقَعْ الْفُرْقَةُ وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ هذه بِنْتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ تَعْتِقُ وما افْتَرَقَا إلَّا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو قال لِزَوْجَتِهِ هذه بِنْتِي وَهِيَ تَصْلُحُ بِنْتًا له ثُمَّ قال أَوْهَمْت أو أَخْطَأْت لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ هذه بِنْتِي وَهِيَ تَصْلُحُ بِنْتًا له ثُمَّ قال أَوْهَمْت أو أَخْطَأْت يَقَعُ الْعِتْقُ فَدَلَّ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ لو قال هذا أبي فَإِنْ كان يَصْلُحُ أَبًا له وَلَيْسَ لِلْقَائِلِ أَبٌ مَعْرُوفٌ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِتْقُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان يَصْلُحُ أَبًا له وَلَكِنْ لِلْقَائِلِ أَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَعْتِقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَإِنْ كان لَا يَصْلُحُ أَبًا له لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنْ يَعْتِقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ وَكَذَلِكَ لو قال هذه أُمِّي فَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ في الْأَبِ وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْحُرِّيَّةِ بِأَنْ كان الْمَمْلُوكُ أَمَةً فَفِي كل مَوْضِعٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ هذه بِنْتِي أو قال لِأَمَتِهِ هذا ابْنِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَعْتِقُ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَعْتِقُ‏.‏

وَلَوْ قال لِمَمْلُوكِهِ هذا عَمِّي أو خَالِي يَعْتِقُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَلَوْ قال هذا أَخِي أو أُخْتِي ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ هذا ابْنِي أو أبي أو عَمِّي أو خَالِي وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَعْتِقُ كما في قَوْلِهِ عَمِّي أو خَالِي وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ وَصَفَ مَمْلُوكَهُ بِصِفَةِ من يَعْتِقُ عليه إذَا مَلَكَهُ فَيَعْتِقُ عليه كما إذَا قال هذا عَمِّي أو خَالِي وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ هذا أَخِي يَحْتَمِلُ تَحْقِيقَ الْعِتْقِ وَيَحْتَمِلُ الْإِكْرَامَ وَالتَّخَفِّي بِهِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في ذلك عُرْفًا وَشَرْعًا قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لم تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ‏}‏ فَلَا يُحْمَلُ على الْعِتْقِ من غَيْرِ نِيَّةٍ بِخِلَافِ اسْمِ الْخَالِ وَالْعَمِّ فإنه لَا يُسْتَعْمَلُ في الْإِكْرَامِ عُرْفًا وَعَادَةً فَلَا يُقَالُ هذا خَالِي أو عَمِّي على إرَادَةِ الْإِكْرَامِ فَكَانَ ذِكْرُهُ لِلتَّحْقِيقِ وَبِخِلَافِ قول هذا ابْنِي أو هذا أبي لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ في الْإِكْرَامِ عُرْفًا وَشَرْعًا وقد مَنَعَ الشَّرْعُ من ذلك قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وما جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هو أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لم تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ‏}‏‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ زَيْدَ بن حَارِثَةَ زَيْدَ بن مُحَمَّدٍ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ما كان مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلمينَ‏}‏ فَكَفُّوا عن ذلك وَإِنْ لم يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا في الْإِكْرَامِ يُحْمَلُ على التَّحْقِيقِ وَأَمَّا النِّدَاءُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ يا ابني ‏[‏بني‏]‏ يا أبي يا ابْنَتِي يا أُمِّي يا خَالِي يا عَمِّي أو يا أُخْتِي أو يا أَخِي على رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا يَعْتِق في هذه الْفُصُولِ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِذِكْرِ اسْمِ النِّدَاءِ هو اسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى لَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْمِ فيه إلَّا إذَا كان الِاسْمُ مَوْضُوعًا له على ما بَيَّنَّا

فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ أَرَادَ به النِّدَاءَ على طَرِيقِ الْإِكْرَامِ دُونَ تَحْقِيقِ الْعِتْقِ فَلَا يُحْمَلُ على الْعِتْقِ من غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ يا ابن أو لِأَمَتِهِ يا ابْنَةُ لَا يَعْتِقُ لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ وَلَوْ قال يا بُنَيَّ أو يا بُنَيَّةُ يَعْتِقُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ‏.‏

وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَنَحْوُ قَوْلِهِ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك أو لَا مِلْكَ لي عَلَيْك أو خَلَّيْت سَبِيلَك أو خَرَجْت من مِلْكِي فَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ يَعْتِقُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من هذه الْأَلْفَاظِ يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فإن قَوْلَهُ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك يَحْتَمِلُ سَبِيلَ اللَّوْمِ وَالْعُقُوبَةِ أَيْ ليس لي عَلَيْك سَبِيلُ اللَّوْمِ وَالْعُقُوبَةِ لِوَفَائِك بِالْخِدْمَةِ وَالطَّاعَةِ وَيَحْتَمِلُ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك لِأَنِّي كَاتَبْتُك فَزَالَتْ يَدِي عَنْكَ وَيَحْتَمِلُ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَلَا يُحْمَلُ على الْعِتْقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيُصَدَّقُ إذَا قال عَنَيْت بِهِ غير الْعِتْقِ إلَّا إذَا قال لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك إلَّا سَبِيلُ الْوَلَاءِ فإنه يَعْتِقُ في الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غير الْعِتْقِ لِأَنَّهُ نَفَى كُلَّ سَبِيلٍ وَأَثْبَتَ سَبِيلَ الْوَلَاءِ وَإِطْلَاقُ الْوَلَاءِ يُرَادُ بِهِ وَلَاءُ الْعِتْقِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ‏.‏

وَلَوْ قال إلَّا سَبِيلَ الْمُوَالَاةِ دَيْنٌ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْمُوَالَاةِ يُرَادُ بها الْمُوَالَاةُ في الدَّيْنِ أو يُسْتَعْمَلُ في وَلَاءِ الدَّيْنِ وَوَلَاءِ الْعِتْقِ فَأَيُّ ذلك نَوَى يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَقَوْلُهُ لَا مِلْكَ لي عَلَيْك يَحْتَمِلُ مِلْكَ الْيَدِ أَيْ كَاتَبْتُك فَزَالَتْ يَدِي عَنْك وَيَحْتَمِلُ لَا مِلْكَ لي عَلَيْك لِأَنِّي بِعْتُك وَيَحْتَمِلُ لَا مِلْكَ لي عَلَيْك لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَتَقِفُ على النِّيَّةِ وَقَوْلُهُ خَلَّيْت سَبِيلَك يَحْتَمِلُ سَبِيلَ الِاسْتِخْدَامِ أَيْ لَا أَسْتَخْدِمُك وَيَحْتَمِلُ أَعْتَقْتُك وَلَوْ قال له أَمْرُك بِيَدِك أو قال له اخْتَرْ وَقَفَ على النِّيَّةِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ وَغَيْرَهُ فَكَانَ كِنَايَةً وَلَوْ قال له أَمْرُ عِتْقِك بِيَدِك أو جَعَلْت عِتْقَك في يَدِك أو قال له اخْتَرْ الْعِتْقَ أو خَيَّرْتُك في عِتْقِك أو في الْعِتْقِ لَا يَحْتَاجُ فيه إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ وَلَكِنْ لَا بُدَّ من اخْتِيَارِ الْعَبْدِ الْعِتْقَ وَيَقِفُ على الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ خَرَجْت عن مِلْكِي يَحْتَمِلُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى كَاتَبْتُك وَيَحْتَمِلُ اعتقتك وَلَوْ قال لِمَمْلُوكِهِ نَسَبُك حُرٌّ أو أَصْلُك حُرٌّ فَإِنْ كان يَعْلَمُ أَنَّهُ سُبِيَ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ لم يَكُنْ سُبِيَ يَعْتِقُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْأَبَوَيْنِ تَقْتَضِي حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْمُتَوَلَّدَ من الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا إلَّا أَنَّ حُرِّيَّةَ الْمَسْبِيِّ بَطَلَتْ بِالسَّبْيِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ في غَيْرِ الْمَسْبِيِّ على الْأَصْلِ‏.‏

وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ أنت لِلَّهِ تَعَالَى لم يَعْتِقْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ إنْ نَوَى الْعِتْقَ يَعْتِقُ وَجْهُ قَوْلِهِ إن قَوْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانَ جِهَةِ الْقُرْبَةِ لِلْإِعْتَاقِ الْمَحْذُوفِ فإذا نَوَى الْعِتْقَ يَعْتِقُ كما لو قال أنت حُرٌّ لِلَّهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ صِفَةٍ للمملوك ‏[‏لمملوك‏]‏ لم تَكُنْ ثَابِتَةً قبل الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْعِتْقِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ كَوْنَهُ لِلَّهِ تَعَالَى كان ثَابِتًا قبل الْإِعْتَاقِ فلم يَكُنْ ذلك إعْتَاقًا فَلَا يَعْتِقُ وَلَوْ قال له أنت عبد اللَّهِ لم يَعْتِقْ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتًا قَبْلَهُ وَكَوْنُهُ عبدا لله صِفَةٌ ثَابِتَةٌ له قبل هذه الْمَقَالَةِ وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ عبدا لله لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جِهَةَ الْقُرْبَةِ لِلْإِعْتَاقِ وَقَوْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ ذلك وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال لِعَبْدِهِ قد جَعَلْتُك لِلَّهِ تَعَالَى في صِحَّتِهِ أو مَرَضِهِ وقال لم أَنْوِ الْعِتْقَ ولم يَقُلْ شيئا حتى مَاتَ قبل أَنْ يُبَيِّنَ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ عَتَقَ‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا قال هذا في مَرَضِهِ فَمَاتَ قبل أَنْ يُبَيِّنَ فَهُوَ عَبْدٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بهذا اللَّفْظِ النَّذْرَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعِتْقَ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ الصَّدَقَةُ لِأَنَّ النَّذْرَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ عِنْدَنَا وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال لِأَمَتِهِ أَطْلَقْتُك يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ تَعْتِقُ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إزَالَةُ الْيَدِ وَالْمَرْءُ يُزِيلُ يَدَهُ عن عَبْدِهِ بِالْعِتْقِ وَبِغَيْرِ الْعِتْقِ بِالْكتابةِ فإذا نَوَى بِهِ الْعِتْقَ تَعْتِقُ كما لو قال لها خَلَّيْت سَبِيلَك وَلَوْ قال لها طَلَّقْتُك يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ لَا تَعْتِقُ عِنْدَنَا لِمَا نَذْكُرُ وَلَوْ قال فَرْجُك عَلَيَّ حَرَامٌ يُرِيدُ الْعِتْقَ لم تَعْتِقْ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَرْجِ مع الرِّقِّ يَجْتَمِعَانِ كما لو اشْتَرَى أُخْتَهُ من الرَّضَاعَةِ أو جَارِيَةً قد وطىء أُمَّهَا أو بِنْتَهَا أو جَارِيَةً مَجُوسِيَّةً أنها لَا تَعْتِقُ‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال لِعَبْدِهِ ‏(‏أ ‏[‏أنت‏]‏ ن ‏[‏حر‏]‏ ت ح ر‏)‏ أو قال لِزَوْجَتِهِ ‏(‏أ ‏[‏أنت‏]‏ ن ‏[‏طالق‏]‏ ت ط ا ل ق‏)‏ فَتَهَجَّى ذاك ‏[‏ذلك‏]‏ هِجَاءً إنْ نَوَى الْعِتْقَ أو الطَّلَاقَ وَقَعَ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ من هذه الْحُرُوفِ عِنْدَ انْفِرَادِهَا ما يُفْهَمُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ إلَّا أنها لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ في الدَّلَالَةِ على الْمَعْنَى لِأَنَّهَا عِنْدَ انْفِرَادِهَا لم تُوضَعْ لِلْمَعْنَى فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ فَتَقِفُ على النِّيَّةِ وَأَمَّا ما يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ في الدَّلَالَةِ على الْعِتْقِ فالكنابة ‏[‏فالكتابة‏]‏ الْمُسْتَبِينَةُ لِأَنَّهَا في الدَّلَالَةِ على الْمُرَادِ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ إلَّا أَنَّ فيها ضَرْبَ اسْتِتَارٍ وَإِبْهَامٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَكْتُبُ ذلك لِإِرَادَةِ الْعِتْقِ وقد يَكْتُبُ لِتَجْوِيدِ الْخَطِّ فَالْتُحِقَ بِسَائِرِ الْكِنَايَاتِ فَافْتَقَرَ إلَى النِّيَّةِ وَالْكَلَامُ في هذا كَالْكَلَامِ في الطَّلَاقِ وقد ذَكَرْنَاهُ في الطَّلَاقِ وَكَذَا الْإِشَارَةُ من الْأَخْرَسِ إذَا كانت مُعْلَمَةً مَفْهُومَةَ الْمُرَادِ لِأَنَّهَا في الدَّلَالَةِ على الْمُرَادِ في حَقِّهِ كَالْعِبَارَةِ في الطَّلَاقِ‏.‏ وَالْأَصْلُ في قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ قَوْله تَعَالَى خِطَابًا لِمَرْيَمَ عليها السَّلَامُ فَقُولِي إنِّي نَذَرْت لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أَيْ صَمْتًا وَإِمْسَاكًا وَذَلِكَ على الْإِشَارَةِ لَا على الْقَوْلِ منها وقد سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى قَوْلًا فَدَلَّ أنها تَعْمَلُ عَمَلَ الْقَوْلِ‏.‏

وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ التي يَقَعُ بها الْعِتْقُ أَصْلًا نَوَى أو لم يَنْوِ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ قُمْ أو اُقْعُدْ أو اسْقِنِي وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ لَا تَحْتَمِلُ الْعِتْقَ فَلَا تَصِحُّ فيها نِيَّةُ الْعِتْقِ وَكَذَا لو قال لَا سُلْطَانَ لي عَلَيْك لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ عِبَارَةٌ عن نَفَاذِ الْمَشِيئَةِ على وَجْهِ الْقَهْرِ فَانْتِفَاؤُهَا لَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الرِّقِّ كَالْمُكَاتَبِ فَلَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك لِأَنَّهُ نَفَى السبيل ‏[‏السبل‏]‏ كُلَّهَا وَلَا يَنْتَفِي السيل ‏[‏السبيل‏]‏ عليها مع قِيَامِ الرِّقِّ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى على مُكَاتَبِهِ سَبِيلَ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِ الْكتابةِ وَكَذَا للسلطان ‏[‏السلطان‏]‏ يَحْتَمِلُ الْحُجَّةَ أَيْضًا فَقَوْلُهُ لَا سُلْطَانَ لي عَلَيْك أَيْ لَا حُجَّةَ لي عَلَيْك وَانْتِفَاءُ حُجَّتِهِ على عَبْدِهِ لَا يُوجِبُ حُرِّيَّتَهُ وَكَذَا لو قال لِعَبْدِهِ اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت أو تَوَجَّهْ حَيْثُ شِئْت من بِلَادِ اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ أو قال له أنت طَالِقٌ أو طَلَّقْتُك أو أنت بَائِنٌ أو ابنتك أو قال لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أو طَلَّقْتُك أو أَنْتِ بَائِنٌ أو ابنتك أو أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أو حَرَّمْتُك أو أَنْتِ خَلِيَّةٌ أو بَرِّيَّةٌ أو بَتَّةٌ أو اذْهَبِي أو اُخْرُجِي أو اُعْزُبِي أو تَقَنَّعِي أو اسْتَبْرِئِي أو اخْتَارِي وَنَوَى الْعِتْقَ فَاخْتَارَتْ وَغَيْرَ ذلك مِمَّا ذَكَرْنَا في الطَّلَاقِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ الْعِتْقُ بها إذَا نَوَى وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ لَا يَقَعُ بها الْعَتَاقُ عِنْدَنَا خِلَافًا له‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أن قَوْلَهُ لِمَمْلُوكَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أو طَلَّقْتُك إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ أو إزَالَةُ الْقَيْدِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ كَامِلٌ وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ وهو تَفْسِيرُ الْعِتْقِ وَنَاقِصٌ وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْيَدِ لَا غَيْرُ كما في الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ فإذا نَوَى بِهِ الْعِتْقَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ النَّوْعَيْنِ فَنَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَلِهَذَا إذَا قال لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ كَذَا هذا وَلَنَا أَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمَمْلُوكِ عِبَارَاتٌ عن زَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ عنه أَمَّا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَلِأَنَّ الطَّلَاقَ عِبَارَةٌ عن رَفْعِ الْقَيْدِ وَالْقَيْدُ عِبَارَةٌ عن الْمَنْعِ عن الْعَمَلِ لَا عن الْمِلْكِ وَالْمَانِعُ يَدُ الْمَالِكِ فَرَفْعُ الْمَانِعِ يَكُونُ بِزَوَالِ يَدِهِ زوال ‏[‏وزوال‏]‏ يَدِ الْمَالِكِ عن الْمَمْلُوكِ لَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ كَالْمُكَاتَبِ وَكَذَا قَوْلُهُ اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت أو تَوَجَّهْ إلَى أَيْنَ شِئْت لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن رَفْعِ الْيَدِ عنه وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي الرِّقَّ كَالْمُكَاتَبِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَيْدَ ليس بِمُتَنَوِّعٍ بَلْ هو نَوْعٌ وَاحِدٌ وَزَوَالُهُ عن الْمَمْلُوكِ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ‏.‏

وَكَذَا قَوْلُهُ أنت بَائِنٌ أو ابنتك لِأَنَّهُ ينبئ عن الْفصل وَالتَّبْعِيدِ وَكَذَا التَّحْرِيمُ يجامع ‏[‏بجامع‏]‏ الرِّقِّ كَالْأُخْتِ من الرَّضَاعَةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَخْلِيصٌ وَالْقَيْدُ ثُبُوتٌ فَيُنَافِيهِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا يَثْبُتُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وما لَا يُمْلَكُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ عنه بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ ما يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فإذا لم يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِين بِلَفْظِ النِّكَاحِ لَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ لَا يَخْتَصُّ ثُبُوتُهُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فإنه كما يَثْبُتُ بِغَيْرِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ بِغَيْرِهِ من الشِّرَاءِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْتَصُّ زَوَالُهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَزُولُ بِرِدَّةِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا بِشِرَائِهَا بِأَنْ اشْتَرَى الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ فَجَازَ أَنْ يَزُولَ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ أو بَدَنُك بَدَنُ حُرٍّ أو فَرْجُك فَرْجُ حُرٍّ لم يَعْتِقْ لِأَنَّ هذا تَشْبِيهٌ لَكِنْ بِحَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وأنه جَائِزٌ من باب الْمُبَالَغَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ‏}‏ أَيْ كَمَرِّ السَّحَابِ وقال الشَّاعِرُ‏:‏

وَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا وَجِيدُكَ جِيدُهَا *** سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْكِ دَقِيقُ

فَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا في جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ كَلَامُ التَّشْبِيهِ لَا عُمُومَ له قال اللَّهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ‏}‏ وقال تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ‏}‏ فَلَا يَعْتِقُ وَلَوْ نوى ‏[‏نون‏]‏ فقال رَأْسُك رَأْسٌ حُرٌّ وَبَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ وَفَرْجُك فَرْجٌ حُرٌّ فَهُوَ حُرٌّ لأن هذا ليس بِتَشْبِيهٍ بَلْ هو وَصْفٌ وقد وُصِفَ جُمْلَةً أو ما يُعَبَّرُ بِهِ عن جُمْلَةٍ بِالْحُرِّيَّةِ فَيَعْتِقُ وَلَوْ قال ما أنت إلَّا مِثْلُ الْحُرِّ أو أنت مِثْلُ الْحُرِّ لم يَعْتِقْ في الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّ هذا تَشْبِيهٌ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ وَالتَّشْبِيهُ لَا يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ في جَمِيعِ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ما أنت إلَّا حُرٌّ لِأَنَّ ذلك ‏[‏ذاك‏]‏ ليس بِتَشْبِيهٍ بَلْ هو تَحْرِيرٌ لِأَنَّهُ نَفَى وَأَثْبَتَ وَالنَّفْيُ ما زَادَهُ إلَّا تَأْكِيدًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ ما أنت إلَّا فَقِيهٌ‏.‏

وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال كُلُّ مَالِي حُرٌّ وَلَهُ عَبِيدٌ لم يَعْتِقُوا لِأَنَّهُ جَمَعَ بين الْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ من الْأَمْوَالِ وَوَصَفَ الْكُلَّ بِالْحُرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ كُلُّ مَالِي حُرٌّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ غير الْعَبِيدِ من الْأَمْوَالِ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالْحُرِّيَّةِ التي هِيَ الْعِتْقُ فَيَنْصَرِفُ الْوَصْفُ بِالْحُرِّيَّةِ إلَى الْحُرِّيَّةِ التي يَحْتَمِلُهَا الْكُلُّ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ خَالِصَةً صَافِيَةً له لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فيها فَلَا تَعْتِقُ عَبِيدُهُ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ‏.‏